جاري تحميل الصفحة
مدارس المهدي
الإثنين, 08 شباط/فبراير 2016 09:32

أنت روحي والحياة

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

    كانت الشمس تحاول الاختباء وراء الأفق، عندما أخذت تلملم خصلها الذهبيّة عن كتف الوادي في بلدة تمنين، وتجمع ما بقي من أنسجتها المتلألئة على نافذة الحاجة زينب، ومع اختفاء آخر ومضة من لمعان الشمس الأرجوانيّة صرخت أمّ حسين بصوت يقطّع نياط الفؤاد قائلة: ارحمني يا ربّ! خفّف عني هذه الأوجاع، وخذني إلى عالم الملكوت علّ آلامي تهدأ. ارحمني ياربّ، واشفِ كلّ مريض، ومنّ عليّ بالشفاء أو بالموت، الرحمة، ارحمني يا ربّ".

خلال هذه المناجاة كان حسين يقف وراء الباب، يمسح الدموع من عينيه، يتوسّل بخشوع إلى الله، يردّد دعاء والدته، وعندما أحسّت بحركة خلف الباب، غيّرت جاهدةً نبرة صوتها قائلة: بنيّ حسين، ألم تذهب إلى عملك بعد؟ سوف تتأخّر يا بنيّ، اذهب ولا تقلق، أنا بخير الآن، ولا أشعر بأيّ ألم، فقد خفّف الدواء الوجع. اتّكل على الله والتحق بعملك.

-  إنّه يوم عطلتي، والإجازة السنويّة بدأت من اليوم، والدوام الليلي أمسى يومًا واحدًا في الأسبوع. لا تقلقي.

-  حماك الله يا بنيّ  من كلّ سوء. ألله يرضى عليك يا ابني.

فقد تقدّم حسين بطلب إجازة، بعد أن أخبره الطبيب بأنّ والدته دخلت مرحلة الخطر، ولم يبقَ إلا أيّام قليلة أمامها، فإحدى كليتيها أتلفت كليًّا والكلية الثانية هدّ قواها شبح الكسل، فغدت تعاني فشلًا كلويًّا خطيرًا.

أتمّ حسين كافة الفحوص الطبيّة وحجز سريرين في مستشفى دار الأمل الجامعي، استلقى على فراشه بعد أن خارت قواه، فمرض الوالدة هدّ قواه، وصراخها  مزّق جدار سكينته، فأمسى يقضي ليله، يحارب القلق والأرق بقراءة الأدعية، وأضحى يمضي نهاره، جسدًا يحرّك آلات المعمل، وروحًا تناجي الله، ولسانًا يلهج بالدعاء، وعينين دامعتين ...

مسح حسين الدموع من عينيه، حمل الهاتف  وأجرى اتّصاله بالطبيب.

- ألو، السلام عليكم دكتور.

- وعليكم السلام. أهلا يا حسين. كيف حال الوالدة؟

- ما زالت ترزح تحت وطأة الألم، تعضّ على الجراح وتحاول إخفاء ألمها عنّي.

- كان الله في عونها.

-  أكلّمك الآن لأؤكّد موعدنا غدًا.

-  أنت متأكّد من قرارك؟!

-  نعم، أنا متأكّد.

-  هناك خطورة على حياتك، لا تقلّ عن الخطر الّذي يحدق بالوالدة. ونسبة نجاح العمليّة عشرة بالمئة فقط.

-  والتسعون الباقية يهبنا إيّاها الواحد الأحد، فقد اتّكلت عليه وسلّمت أمر والدتي إليه، فهو حسبي ونعم الوكيل، ولن يخيب أملي أبدًا.

-  اتّكلنا على الله، موعدنا غدًا عند الساعة السابعة صباحًا إنشاء الله تعالى.

-  شكرًا دكتور.تصبح على ألف خير.

-  وأنت والسيّدة الوالدة بألف خير.

تسلّل حسين إلى غرفة والدته، اقترب منها، ففوجئ بهدوئها؛ لا أثر لصوت أنّاتها، مطبقة الجفنين، جبينها مرصّع بقطرات من اللؤلؤ الفضيّ، زاد من وقارها وهيبتها ابتسامة علت محيّاها المبلّل بزخّات العرق. تحسّس أنفاسها، هزّها بقوة، فلم تبد حراكًا. صرخ  بأعلى صوته: أمّي، أمّي، ردّي عليّ يا حبيبتي. أرجوك لا تتركيني يا أمّاه. ردّي عليّ، فأنت روحي والحياة ....

ومع تعالي صراخ حسين، توافد الجيران بالبكاء والعويل إلى منزل الحاجة زينب، وألسنتهم تلهج بالدعاء لها أملًا ببقائها على قيد الحياة.

تقدّم جعفر (الممرّض المشهود له ببراعته في عالم الطبّ) اقترب من أم حسين، تحسّس نبضها، وصرخ قائلًا: مازال نبضها يعمل، اتّصلوا فورًا بالإسعاف، هيّا اتصلوا!

أمّا هو، فباشر بالإسعافات الأوّليّة.

وصلت سيّارة الإسعاف، حملت الحاجة  على النقّالة، وبعد أن أدخلت إلى كهفها، أخذت السيّارة تنهب الأرض نهبًا، وصوت صفّارتها يلعلع، ويمزّق أسدال الليل ... ويدخل الخوف إلى قلوب أبناء المناطق التي تمرّ فيها هذه السيّارة، وكلُّ منهم يدلو بدلوه الطافح بأصدق عبارات الدعاء، لمن تقلّه الإسعاف، دون أن يعرفوا من يكون، فكلّ مريض بالنسبة إلى أبناء هذه القرى هو فرد من أفراد عائلتهم، يخشون عليه من كلّ سوء ومكروه، ويتمنّون له حياة هانئة ملؤها السعادة والعيش الرغيد. فهذه هي أخلاق أبناء القرى، وأتباع محمد وآل بيته (ع) .

أدخلت الحاجة غرفة الطوارئ، استدعي الأطبّاء المولجون علاجها: طبيب البنج، الطبيب الجرّاح، طبيب القلب ...

استدعى الدكتور مصطفى، حسين الابن البارّ، فوجده مكسور القلب خافض الجناح، منهار القوى، لكنّ هالةً نورانيّة تجلّله، إنّها هالة الأمل بشفاء الوالدة، ومدّها بنبض الحياة والتعويض عمّا لحق بها من هموم وأحزان ومآس. فهي الأم الثكلى التي فقدت ابنتيها، والزوجة الأرملة التي فقدت زوجها....

-  ماذا تقترح الآن يا حسين؟

-  أقترح التعجيل في العمليّة.

-  أأنت متأكّد؟

-  بكلّ تأكيد، وأكثر عزما وتصميما من ذي قبل.

-  بعد ساعتين من الآن، يكون كلّ شيء جاهزًا.

-  توكّلنا على الله، أملي به كبير ...

توجّه حسين إلى حديقة المستشفى، توضّأ، صلّى ركعتي التوسّل بمحمد وآل بيته، وباشر بالدعاء.

حان الموعد، فأدخل كلُّ من حسين ووالدته غرفة العمليّات، مرّت ساعات، والجيران والأقارب في باحة المستشفى، هذا تبرّع بوحدة من الدم، وذاك بوحدتين، وآخرون أخذوا يدعون بالشفاء للوالدة، وللابن البار الحنون ...

أشرقت الشمس، وأرسلت ضفائرها الذهبية على سهل البقاع، وراحت خيوط نورها تتسلّل إلى غرفة العناية الفائقة في مستشفى دار الأمل، تتفقّد حال المرأة وابنها، فبعد ستّ ساعات قضاها الاثنان معًا، نجحت العمليّة بإذن الله تعالى، فالابن عادت إليه طمأنينته الهاربة، بعد أن استؤصلت كليته، وزرعت في جسد والدته، فعادت إليها الحياة بفضل الله وكلية ابنها، فإذا بالجسدين يتلاحمان ماديًّا ومعنويّا، وبالمحبّة تشتدّ أواصر التلاحم والتعاضد.

أضاءت الشمس الغرفة، وحطّت رحالها العامرة بدفء الأمل والحياة على محيّا حسين، فأيقظته من غيبوبة تأثير الأدوية المخدّرة، وأوّل كلمات نطقت بها شفتاه: أمّي، أين أمّي؟ أخبروني، هل نجحت العمليّة ؟

-  أجاب الدكتور مصطفى: اطمئن يا حسين لقد نجحت العمليّة _ وبفضل الله _ مئة بالمئة.

حمدًا لله على سلامتكم. استرح، ولا تجهد نفسك.

-   حمدًا لك يا ربّ، وشكرًا لك يا دكتور. هل أستطيع رؤية أمّي؟ أرجوك.

-   انتظر قليلًا، ريثما تستفيق من أثر المخدّر.

أدخل حسين على كرسيّ مدولب غرفة والدته، وكان اللقاء. اقترب منها، غمرها بقوّة، فأجهشت بالبكاء وأطلقت عبارات أبكت الحاضرين من الطاقم الطبيّ ...

شيم وأخلاق رفيعة يتحلّى بها هذا الشاب، وعمليّة الإستئصال زادت من رصيده الأخلاقي، فغدا شابًا يحتذى به بين أقرانه في المجتمع، تحرسه عبارات الرضا وكلمات الدعاء بالتوفيق والحياة الهانئة من قبل كلّ من يعرفه، وكليته التي زرعت في أحشاء والدته غدت ملاكه الحارس؛ كيف لا؟ ودعاء والدته بالرضا والتوفيق والسداد أضحى مظلّة تقيه شرور الزمان وغدره، وتمدّه بظلّ الطمأنينة واليسر أينما اتّجه وكيفما سار.

 

محمد رسول حمية

السابع الأساسي

 

 

معلومات إضافية

  • النوع: خبر
قراءة 22985 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

الرزنامة


نيسان 2024
الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت
31 1 ٢٢ 2 ٢٣ 3 ٢٤ 4 ٢٥ 5 ٢٦ 6 ٢٧
7 ٢٨ 8 ٢٩ 9 ٣٠ 10 ٠١ 11 ٠٢ 12 ٠٣ 13 ٠٤
14 ٠٥ 15 ٠٦ 16 ٠٧ 17 ٠٨ 18 ٠٩ 19 ١٠ 20 ١١
21 ١٢ 22 ١٣ 23 ١٤ 24 ١٥ 25 ١٦ 26 ١٧ 27 ١٨
28 ١٩ 29 ٢٠ 30 ٢١ 1 2 3 4
لا أحداث

مواقع صديقة

Image Caption

جمعية المبرات الخيرية

Image Caption

مؤسسة امل التربوية

Image Caption

مدارس الامداد الخيرية الاسلامية

Image Caption

المركز الاسلامي للتوجيه و التعليم العالي

Image Caption

وزارة التربية والتعليم العالي

Image Caption

جمعية التعليم الديني الاسلامي

Home
https://socialbarandgrill-il.com/ situs togel dentoto https://sabalansteel.com/ https://dentoto.cc/ https://dentoto.vip/ https://dentoto.live/ https://dentoto.link/ situs toto toto 4d dentoto omtogel http://jeniferseo.my.id/ https://seomex.org/ omtogel https://omtogel.site/