جاري تحميل الصفحة
مدارس المهدي

مساحة التلامذة

عطر الزيزفون

   شجرة الزيزفون لا تزال هناك، زهرها أصفر، وعطرها أخّاذ، منثور على وهاد بلدة " الفاكهة" البقاعية، يرافق نسيمات الصباح إلى أهالي البلدة وهم ينطلقون إلى أرزاقهم، فتطيب الصباحات وتنشرح الصدور.

هناك بين الصخور وتحت السنديان وقرب الجداول تواجدا دوما. كانا يمتطيان صهوة النهار ويمضيان في دروب القرية وروابيها يلاعبان الفراشات ويرعيان أعشاش الطيور، يسلمان على الرعاة والمزارعين ويطاردان الغربان السوداء، حتى يأتيا على النهار، فيلوحان للشمس ولقرصها البرتقالي يغيب في سهل البقاع الخيّر.

ولا تلبث سويعات الفراق أن تنتهي مع خيوط النور الأولى، فآذان الفجر ساعة "إيليا" التي لا تخطئ والتي تؤذن بلقاء قريب مع صديق الروح "علي" ليبدأ مشوار جديد ويبدأ تسلّق شعاع الشمس الى الحقيقة.

يوما بعد يوم، نما الحب بينهما وربا وشبّ وشبّا معه، حتى غدوا مثالا يضرب في الإخلاص والوفاء والصداقة؛ ما يحب علي يعشق إيليا وما يؤمن به إيليا يوقن به علي، وحيثما تواجد أحدهما تواجد الآخر؛ خبُرا معا كل شيء وعاشا آلاما واحدة وتذوقا مرارات واحدة وضحكا ملء الأهداب لأحداث واحدة، وركنا الى الطبيعة، ركنا اليها حتى توحدا معها؛ ففيهما طهر مطر نيسان، ونقاء زهر اللوز، ووسامة طاقات الورد، وطيب الزيزفون، ووضوح الشمس.

وفي يوم انتهت أحلام الوصال، وتهاوت صروح اللقاءات، هام علي على وجهه وانطلق نحو جرود البلدة فارّا من واقع جديد، واقع لا يسجل في يومياته "إيليا"، ولكم كان مخطئا في تحديد وجهته، فكل ذرة تراب موطنا لهما وكل شجرة أسرة وكل صخرة حضن، وكل خطوة حكاية.

لم يفلح في تغييب ذكراه فبكى بكاء مرّا، بكى على مرأى من شواهد الزمن التي لم تلمه، وكان لبكائه نشيجا موجعا حملته الريح إلى كل الأوفياء، عاتبه: "إلى بيروت؟ وماذا في بيروت؟" ولامه: " كيف تتركني وكيف لا تودعني؟" وبرر له: "لك الفخر جنديا في جيش بلادنا".

في ذلك اليوم عاد خاويا من إنجازات وخاليًا من حدث، عاد وحيدًا يسمع لأنفاسه نغمًا شجيًّا ولقلبه دقات حزينة، وللنسيم بحة ناي من قصب، وكان لخطواته الثقيلة وقع رهيب لإنسان وحيد يعيش عزلة مرة وهجرانا مؤلمًا.

مرت الأيام وئيدة سقيمة، وضاق مسرح علي وإيليا لينحسر في شاشة زرقاء صغيرة، يتبادلان عبرها الرسائل القصيرة والوجوه الضاحكة، شاشة لا تتسع لأحلامهما وليست بحجم عالمهما الحقيقي، وعندما يضيق علي بهذا التواصل الجاف يتوجه الى مراتع طفولتهما عله يحظى بطيف إيليا، لكن لم يكن لرحلاته إلى البراري طعمها المعهود ولذتها الحلوة بل كانت مثار ذكريات وأشجان.

ذات يوم ألقى كل شيء متغيرا، الطبيعة واجمة وسكون بارد يلف المكان، لا دفء حياة ولا سريان روح في معالم الكون، التفت الى السماء فإذا بغمامات سوداء تحجب الشمس. ما الأمر؟ أين موسيقى الروابي لا يسمعها؟ لمَ لم تعزف الريح نشيد الخلود؟ التفت شمالا فرأى سحبا من الدخان الاسود وشم رائحة حقد وضغينة وسمع أصوات كذب وافتراءات، مد نظره الى الحدود السورية، فلاحت راية سوداء بلون الموت الزؤام، تتخذ شعار الوجود ستارا لزيفها ونفاقها.

انغرزت قدماه في الأرض رغم علمه بهجوم وشيك لأعداء الإسلام والإنسانية وتدفق الدم في شرايينه، لا، لن يبرح هذا المكان، هذه مملكته وإيليا، سيواجه ويقاوم ولو بقي وحيدا.

هبط الليل وتربع بدر الفاكهة في وسط السماء، ساكبا خيوط اللجين على نواحي البلدة، حارسا سكانها، تاليا التمائم لأطفالها.

قعد علي على الصخرة، وراح يترقب، يرهف السمع، لا شيء سوى موسيقى صرار الليل، ولكن فجأة أحس بيد تمسك كتفه، التفّ بسرعة وجهز قبضته ليلكم المجهول الذي بادره: "لا تخف، أنا هنا لحمايتكم، عد الى منزلك ونم مطمئنا".

قفل علي راجعا، اجتاز الحقول ومر بين المنازل الآهلة، الآمنة المزنرة بالياسمين الناصع، المحروسة بالعذراء مريم عليها السلام، وصل الى البيت، لكنه لم ينم، تزاحمت الأفكار في رأسه، هاجمته الهواجس، واجتاحه القلق، وعندما لامس الكرى أجفانه سمع دوي انفجارات وإطلاق رصاص كثيف مزق سكون السحر وأوقظ العيون الهانئة.

هب علي الى خزانته، تناول سلاحه وانطلق نحو التلال وتبعه أبناء البلدة شبانا وشيبا ونساء، يحمون موطنهم ويدافعون عن انفسهم.

وصل الى تخوم البلدة وراح يبحث عن موقع مناسب للتصدي، وهو العليم بهذه المنطقة، فتوجه نحو شجرة الزيزفون وراح يترصد أقرب المهاجمين، عن يمينه ليوث حزب الله يشكلون حصنا منيعا في وجه الغزاة وعن يساره عناصر من الجيش اللبناني يزودون عن الأرض بكل ما أوتوا.

احتدمت المعركة وحدق الخطر بالتكفيريين، فازدادت وحشيتهم وأنشبوا مخالبهم في الأرض يحرقونها ويطلقون آخر رصاصاتهم الواهنة في محاولة يائسة للصمود، ولكن نيران اللبنانيين طالتهم في أوكار جبنهم، فتهاووا جيفا نتنة.

في غمرة انشغاله وتصديه، سمع علي أنة خفيفة، توجه نحو مصدر الصوت، وكانت خيوط النور بدأت تسري في الطبيعة، فإذا بجندي مستلق الى صخرة والدماء تغطي وجهه، هم علي بحمله الى فريق الإسعاف الحربي لكنه ابى وتشبث بالأرض وجذب علي نحوه، استشعر علي قوته، فتأكد من سلامته ومن بساطة جرحه، جذبه أكثر حتى سمع انفاسه، وهمس في أذنه : اشتقت لك يا علي"

-         إيليا؟

-         نعم، إيليا، كنت واثقا أني سأجدك قرب شجرة الزيزفون، لذلك توجهت الى هنا مباشرة، لا تقلق، جرحي بسيط وقد مسحته بالتراب كما كنا نفعل بلسعات الدبابير.

تعانقا مطولا وضحكا وتنشقا عطر الزيزفون، وكانت الشمس قد بدأت تظهر لتعلن للعالم انتصار لبنان وهزيمة التكفيريين.

 عاد الصديقان وعاد الأهالي إلى بلدتهم مهللين، ليبدأوا نهارا جديدا مكللا بالبيلسان، عادوا ليجدوا كل شيء مكانه، ولكل شيء مكانته، المسجد هنا، والعذراء وطفلها بخير، وقهوة الصباح، وحقائب الطلبة ومحراث الفلاح. ..كل شيء بأمان.

 

مباراة القصة القصيرة

الفئة: التاسع والحلقة الرابعة

الاسم: نرجس حمية

الصف: التاسع

 

وانكسر القيد

لملم الليل خطوط الكحل من بين أهداب القرية الوادعة، وسحب بُرده القاتم، فارشا سكونا ازرق خاشعا، قبل ان ينسال شعاع التبر الخالص، وينثر عبقا قدسيا من قارورة عطر نادرة.

أفاقت المآذن، وباحت بسر اسرار الكون، فتوضّأ الياسمين الطاهر بطلّ الإله، وآنست الدروب بخطى المصلين، وقد حيوا على الفلاح، ركعوا وسجدوا وجددوا في صبيحتهم عهدا وعقدا وبيعة لا تزول. .. وكان الصباح.

مدت سيدة النهار شعاع الحياة، فسرى الدفء في نسغ الطبيعة، وسار قانون الوجود على سكة الايام.

توجه ابو حسين نحو حقول التبغ، وزهرة الى الجامعة في صيدا، وحسين في مكان ما من هذه الارض الطيبة. وسيدة الدار تماثل سيدة النهار في بث الحياة في أرجاء المنزل، أما الطفل عباس فكان في دنيا عامرة تفوق عوالم الآخرين فتنة وروعة، يزرع البيت حركة ونشاطا، يدخل ويخرج يدخل ويخرج، يقصد المرآب، صندوق المعدات، يعود. ..يعود شاهرا مسدسا خشبيا، تبتسم الأم له، وتعود لتكوير العجين بطريقة منتظمة.

لم تكن الأم لتشعر بالضجر وعباس يرافقها في كل ما تنجز...كل ما تنجز، حتى إعداد الخبز؛ وتحت الزيتونة الدهرية جلسا، كانت تمدّ كرات العجين برفق وتربّت على وجهها البضّ فتستحيل بدورا بيضاء، وعلى وقع كفيها على العجين، كانت اسئلة عباس تتقاطر وتطال كل شيء.

- لمن كل هذه الأرغفة يا امي؟

- إنها للنسور، سنضع قسما منها على الحائط الحجري لتأتي وتأخذه فيما بعد؛ النسور لا تنزل الى الأرض دوما؛ إنها تحلق في الأعالي. ..فوق الدنيا.

- آه ليتني نسرا!

ابتسمت الأم ابتسامة مطمئنة، وقرأت في عيني طفلها شوقا حقيقيا للحرية والانطلاق.

أخمدت أمّ حسين نار الموقد، وتوجهت نحو الحقول بحزمة من الأرغفة الشقراء الساخنة، مشيا وقد رافقتهما رائحة التراب الندي  تعبق في الحقول، وهناك اقتعدوا الأرض الكريمة المعطاء، وأكلوا من خيراتها وكان طنين حسين من حولهما لا يهدأ؛ يطلق  زخات من الطلقات باتجاه التلة، طلقات متوالية تخفت مع تهالك أنفاسه الصغيرة لتعود أقوى مما كانت.

عاد الفلاحون الى منازلهم، وعادت الشمس إلى خبائها، وحرس سماء الخيام هلال فضي، وهزت نجماتها مهود الأطفال فناموا قريري الأعين؛ سكون لم يدم طويلا؛ فقد مزقت هدأة الليل طلقات متوالية، مصادر النيران متعددة، تخمد وتنشط من جديد، الطائرات تجوب السماء وتحول الليل الى نهار بما تلقيه من قنابل مضيئة، وتبعث الرعب في نفوس الآمنين بغاراتها الوهمية.

ارتفعت الأكف الخاشعة، وابتهلت الحناجر، وتوجهت المآقي الى الله الواحد، وفي القلب رجاء بسلامة المقاومين ومن بينهم حسين. هدأت النيران ولم يهدأ بال أم حسين؛ كانت تتضرع إلى الله وتطلب العون  ليسلم الجميع كما في كل مرة.

ارتحلت جحافل الليل متثاقلة، ليحل الصباح حاملا معه واقعا جديدا مريرا، وليعلم الجميع أن حسينا وقع في الأسر.

كان وقع الخبر عظيما على الجميع فكيف لنسر محلق في الأعالي ان يُقيد؟ وأيّ أصفاد تكبّل روحا حرة؟ وأي سلاسل تحبس الإرادة والعزم؟

غمر الأسى قلب الأم؛ وهي العالمة بأحوال الأسرى وممارسات الغاصب، وخيم على دارها وجوم حائر، وضاعت نظراتها في الأفق، لعل نسيم الوطن يحمل عطره ويبعد فكرة التعذيب، لكن هيهات...

كانت الشتائم والإهانات المرحلة الاولى من مراحل التعذيب، فكان المحقق يكيل السباب لحسين وينال من نهجه المقاوم، لكن الفتى كان صلبا جدا؛ فلم يطاطئ رأسه، ولم يبدِ ضعفا، ما أثار المحقق، فامعن فيه ضربا ولكما وركلا، ورمى به في زنزانة صغيرة ضيقة جدرانها السوداء تزيدها ضيقا ووحشة.

توالت أيام وليال ذاق حسين خلالها كل الوان التعذيب، ولمس وحشية الغاصب المحتل وبربرية افعاله؛ ما زاده تمسكا بنهج المقاومة والحفاظ على الأرض وإن كانت الايام تمر رتيبة واهنة، والاحلام حبيسة زنزانة قاتمة، والقاضي مجرم، والسجين صاحب قضية حقة، والجرم هو الدفاع عن الوطن، اجل الوطن.  .. الوطن يستحق ثلاثا من سني العزلة والقهر والتعذيب، وأهل الوطن جديرون بحياة كريمة؛ لذلك لم يهن حسين، ولم يضعف. عزيمته تلك كانت تشعل صمودا في قلوب الأسرى، حديثه سلوى في الليالي الحالكة، وصلاته مواساة في الأسحار، وكلما حاول الضعف غزو القلوب، استحضر الإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، فيشرق الأمل ويورق الرجاء ليزهر أماني خضراء.

ذات يوم ركل احد الغاصبين باب السجن بشدة وصاح بأعلى صوته: حسين الى الانفرادي!

بات حسين يشكل خطرا بتأليبه الاسرى وتشجيعهم على الصمود والصبر ونصرة المقاومين في الخارج؛ إنه يحدث تغييرا خطيرا، يؤم المصلين، يواسيهم، يتلو الاذكار ويرددون، يحث أخوته على الصبر والثبات، يداوي جراحاتهم، يضمد آثار التعذيب ويستحضر بطولاته في سوح القتال فيشحذ الهمم وتمتلأ الأوداج عزمًا.

وبعزلة حسين عن رفاقه قلت مخالفاته وكانت المكافأة: الشمس.

إنها السماء اللازوردية سماء الوطن الرحبة؛ اشتاق الى سماء الوطن وإن كانت ستبدو مربعات صغيرة بفعل الحاجز الحديدي؛ بصيص الأمل في عينيه يلغي كل الحواجز، ويرسم ابتسامة مطمئنة واثقة، يبتسم لندف الغمام الابيض، للنسور تحلق في الأعالي، لأريج الزعتر البري في حقول الخيام وعندما استذكر الحقول، استحضر الأهل فإذا بصورهم تتراءى له على صفحة الغيم. .هذا أبو حسين بشاربيه الأبيين، وتجاعيده الصامدة، هذه زهرة، وهذا عباس، وهذه الأم الرؤوم، بعينيها الدامعتين بعباءة بيضاء، ووشاح من نور، وها هو يسمع دعاءها وابتهالاتها، أغمض عينيه واجتاحه الاشتياق لضمة من الذراعين الرحيمين...وتحررت دمعة حرى من بين أهدابه المتشابكة لتخط رسالة بحبر النجيع. .أمي الحبيبة. ..لجبينك الوضاء أنسج عسجد الشمس تاجا للعز. ..لهامتك المرفوعة أطرّز زرقة السماء وشاحا للفخر. ..للأنامل المتعبة أجعل الشوك بلسما. ..وما الأصفاد وما السلاسل. ..في سبيل عينيك يا أمي...

نامت عيون الشمس التي أشعلت الحنين، ولم تنم عين حسين، الألم باد على محياه، وهواجس تنكيل الاعداء بأسرته تراوده دوما، كان ليله سهدا وأرقا وهواجس، وإن لامست الاغفاءة أهدابه، طردها كابوس الاحتلال ووحشية زبانيته، فيشعل نار القلق في قلبه، ويستحضر كل أفراد أسرته ويجعلهم تحت مرمى العدو، فينكل بهم ويخضعهم ؛ يراهم راكعين، أيديهم خلف ظهورهم. .. و... يفتح عينيه طاردا اشباح الذل، لاجئا الى من لازمه دوما، وكان خير ناصر وخير معين، تناول وريقات صفراء مهترئة وتوجه الى الله."..أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به عن الخاطئين. ..فيا من رحمته واسعة وعفوه عظيم. ..هب لي يا إلهي فرجا بالقدرة التي تحيي بها ميت البلاد ولا تهلكني غما حتى تستجيب لي وتعرفني الإجابة في دعائي وأذقني طعم العافية الى منتهى اجلي ولا تشمت بي عدوّي ولا تسلطه علي ولا تمكنه من عنقي اللهم إني اعوذ بك فأعذني واستجير بك فأجرني واسترزقك فارزقني واتوكل عليك فاكفني واستنصرك على عدوي فانصرني واستعين..."

كان صوته ممزوجا بنشيجه، والدموع تغسل وجهه وتحط على الكلمات، تسارعت نبضات قلبه وعلا زفيره، وأحس أن جدران زنزانته تضيق أكثر فأكثر، وتزداد حلوكًا موحشًا، رافقه حتى ساعات الصباح، عندما تسلل خيط النور من رحم الليل.

كان صباحًا غريبًا، سمع حسين جلبة في الخارج، وآليات العدو تتحرك بعنف، أصوات وصخب. أيجهز العدو علينا؟ أيضيف إلى سجله الإجرامي مجزرة جديدة؟ تتعالى الأصوات، ويرتفع الصياح، وتقترب الخطوات من باب الزنزانة. أهي النهاية؟ أأكون شهيدا في زنزانة؟ أتوق الى الشهادة، لكن ليس في هذا المكان...يسمع ضربا متواترا متواصلا على باب زنزانته، يقف الى الحائط ويتهيّأ لاستقبال مصيره. .. لكن مهلا. ..ماذا يسمع؟ من بين الصخب والضجيج تناهى الى مسمعه نداء " الله اكبر"، فأزهر الأمل في عينيه، ومع " الله أكبر" انكسر القيد وانطلق النسر محلّقا.

في الخارج عرس للحرية، يزفّه نوار بأزاهيره، فتزغرد المآذن مهللة بنداء الحق الأزلي، وتصفّق الكنائس ناثرة صدى المحبة،  ويمضي القرويون في الدروب المعشوشبة. .. يحنّون  أكفهم بثرى النصر...  فهم قوم لا يتركون أسراهم. ..

سجى صبحي الحاج حسن

التاسع الأساسي فرنسي

2012-2013

 

وعاد...

- قصة واقعية

- مع اختتام فصول هذه القصة كان القدر يخطّ قصة أخرى؛أصيب أبو جواد في أثناء قيامه بواجبه الجهادي.

 

          هناك ... حيث تعانق ذرى المجد لازورد السماء ... حيث يبتهل أرز العلى في صلاته الأزلية... حيث تخشع الوديان في محاريب السكون وترتفع ترانيم العز فوق هامات الأبطال ...هناك لبنان.

لبنان عرين الأبطال، سفر أمجاد، في صفحاته سطور عز ورفعة وإباء، وأسماء لا تموت، تحمل أخبارها الرياح، وإليكم قصة خالدة سردتها لي يوما ....

فاستهلّت قصّها بصراخ أحدهم مستبشراً:

-         لقد ولد! لقد ولد! هكذا أخبرني الطبيب!

-         هل أنت متأكد ؟! هلاّ تتأكد من ذلك؟

تلعثم لبرهة ومن ثمّ استرسل قائلاً: "هل ..هو جميل، أهو بصحة جيدة، ما لون بشرته...هل ..هل..؟؟" ومن فرط شوقه لم يكد يكمل كلامه، وهرع يبحث عن الغرفة التي سيحظى فيها بطفله الّذي انتظره لأشهر عدّة، وما عاد يطيق فراقه، ولو لمدة وجيزة من الوقت. وبفعل سحر الحبِّ والحنان. أخذ -وكأنه البرق- يقرع باب كل غرفة ويفتحه على مصرعيه، وكذا ظلَّ حتى أرشده الفؤاد الولهان إلى حجرة علا فيها صوت البكاء والصراخ، وصل أخيراً إلى هدفه وبابتسامة ساكنة ارتسمت على ثغره، سأل القيّم على المكان "أين أجد الطفل علي؟". فأجاب المسؤول: "إنه في السرير رقم 33". ثمّ أتبع بالقول: "هنيئاً لك على هذا الطفل، ما أحسن وجهه". عندها همَّ أحمد بالبحث عن السرير، وإذ به يجده، حمل الطفل وأخذ يقبله، يضمه، ويداعبه حتى وصل إلى الغرفة حيث كنّا بالإنتظار، أذّن في أذنه اليمنى وما كاد يتمّ الإقامة باليسرى، حتى شرع هاتفه الخلوي بالرنين،  من بوسعه الإتصال الآن؟ امتعض الجميع من الإتصال  فقد كان له وقع غريب، ما عدا أحمد – المقاوم الذي ألف ساحات الوغى وملاحم النزال – لم ينزعج ، فكان يجيب بكل انفعال وحماس، وقد خرجت الكلمات من حلقه مختلطة بالحلاوة  التي بدت سائلةً على شفتيه. وكيف لا وقد حظيَ للتو بفرصة للعمر ليجدد أساطير "أبي جواد" التي لطالما سطّرتها سهول البقاع الغربي، وجبل صافي، والريحان...

عدنا إلى المنزل ولكن لم نعد للإحتفال أو لتقبّل التّبريكات والتّهاني بل عدنا لتوضيب أغراض وحاجيات أبي الذي كان على موعد مع الجبهة التي طالما أحبّها وعزّ عليه فراقها. حتّى أمّي كانت تغبطها لكثرة محبّة والدي لها. أنهى ترتيب حاجياته، حملها واتجه إلى باب الدّار. لم يسعه النظر إلينا فقد إكتشف الحزن الدفين الغائر في صدورنا. والّذي تجلّى في عيني أختي الّتي ما برحت تذرف الدمع الغزير، وكأنها المزن الممتلئة بماء الأسى ودمع الفراق. وصل إلى عتبة المنزل، فنادته أمي: "هنيئاً للثورة كم تعشقها، أكان عليَّ أن أُدعى بحرب أو أسمي الأولاد غزوة أو معركة كي تبقى ولو قليلاً في هذه الخربة". فضحك ضحكةً مدوية و مضى.

 بعد ذهابه، سيطر جو من الكآبة على المنزل وبدا وكأنه كهفٌ مهجور. ونحن ألفنا الظلمة دون "جسر البيت"..

 ركب أبي الباص وانطلق في رحلة العشق، إلى المكان الذي يكون فيه قريباً من السماء وعلى مشارف باب الجنة المدعو بالجهاد، الجهاد الصّادق في سبيل الله، والتضحية الأصيلة في سبيل مبادئه ودفاعاً عن البلاد من كل أصناف الغزاة.

 وصل أحمد إلى الجبهة في جنوب لبنان، جنوب لبنان الصامد في وجه الصهاينة العتاة. تنشق هواءه العليل  فأحس بالسعادة مع كل نسيم يداعب أفنان الأشجار، ومع كل خطوة واثقة خطا في الأرض التي إتخذها خليلة في زمن المصائب والويلات في زمن الأساطير والبطولات.

إلتحق أحمد بعمله العسكري المقاوم وقد تملكته روح الفداء والتضحية كما كل المقاومين الذين كانوا على أهبة الإستعداد للدفاع عن الوطن، واجتمعوا.... وما أجمل اللقاء، كانوا بأجمعهم أصحاباً، أمست ساحات الوغى مرتعهم وملعبهم، كانوا مستبشرين سعداء؛ فبعد طول الإنتظار التمّ شملهم وقد عُقد بالتضحية والفداء والسير على نهج سيد الشهداء.

بلّغ أحمد رفاقه المجاهدين بتقدم العدو في جنوب لبنان، عندها انطلقوا معاً إلى مارون الراس، وهناك أخذوا مواقعهم بكل حذر  وكانوا كالجبال بشموخهم، كالليوث في ضراوتهم، وتحمّلوا أعتى المواقف ولكن ظلّوا يرصدون كل تحرك. بعد أيام من المراقبة وفي النقطة نفسها، سمع أحمد صوتاً صادراً عن الجهاز اللاسلكي ينادي:

"يا أبا جواد هل تسمعني؟"، فردّ أحمد: "نعم ،أسمعك أخبرني ماذا تريد".

-         القيادة كلّفتكم بمهمة جديدة، أبشر يا أبا جواد فمن الممكن أن تتصدّوا للصهانية.

-         بشّرك الله بالخير ما أحلى هذا الخبر، وإلى أين المضي إن شاء الله ؟.

-         إلى قلب النزال، بيّضوا وجوهنا يا أبا حواد، هنيئاً لكم.

وإنتهت المكالمة، ولم يكد يطلع الضوء حتى إنطلق أبو جواد والمجاهدون إلى المكان المنشود، تمركزوا في مختلف الأماكن وسيطرت عليهم البهجة ممزوجة بالحماس والشغف، شغف القتال والنار !شغف البطولة والعنفوان...وبالفعل رصدوا طليعة الجيش الإسرائيلي واستعدوا لهم؛ "أحمد" قبض على الزناد بكل حزم، تفجرت الثورة في كيانه ولم يطق مشهد المعتدين في أرضه، وأرض أجداده الأولين.

سيطر الصمت، ساد الهدوء ولكن قد اعتلى عرشه صوت مريب، إنه هدوء ما قبل العاصفة وقد تخلّله تحرك يبعث على الريبة وفجأة صرخ أحدهم "أنظروا!!أنظروا إليهم ها هم " وبدأت المعركة ولم يعد يسمع سوى أزيز الرصاص وزمجرة القذائف، وللأسف لم يعد عنصر المفاجأة من صالح المقاومين، قد ركزوا في موقع حرج جداً، استمر إطلاق النار واستمرت المقاومة ...كان نصر المقاومين معلقاً بخيط، وقد تدخل الدعم الجوي الذي طلبه جنود الأعداء بعد الذعر الذي دب في قلوبهم من جبروت المقاومين وبأسهم. استمرّ أحمد ورفاق دربه بالقتال حتى ألحقوا أقسى الضربات بالعدو ولكن...وصلت مقاتلات العدو ورجمت منطقة المعركة بالقذائف وكأنَّ الأرض شبّت لهباً، فلم يُر شيئاً ما خلا سعير النار والرماد والغبار ولا شيء آخر، حتى المقاومين!!...

نحن كنّا في القرية منتظرين آملين، آملين أن العمل الذي تركنا والدنا من أجله هو مجرّد عمل روتيني بسيط، شغلَه عن عائلته، أهله، وعياله. ولكن لم يكُ كذلك البتّة ، فقد علمنا من خلال الفضائيات أن المعركة تلك كانت مقدّمة للحرب الشهيرة، حرب تموز،عند معرفتنا دبَّ الرعب في قلوبنا على أبينا، على أنفسنا، وعلى من حولنا.

من فورنا هجرنا المنزل بعد الإيعاز لنا بذلك، وقصدنا بيت جدي، الذي كان أكثر أمناً. وصلنا، دخلنا حيث استقبلتنا الجدة برحابة صدر وهتفت:"أهلاً وسهلاً! ما هذه المفاجأة السارة؟ "ولكننا لم نرتم في أحضانها كالعادة ،فاستطردت بكل تعجب قائلة: "ما بكم؟ وكأنّ الألوان قد خطفت من وجوهكم، ما سبب شحوبكم؟" فردت أختي وبتعجب فاق إستغراب الجدة بدرجاتٍ هتفت: "ولكن ألم تشاهدوا الأخبار؟!!"

-         لماذا نشاهد الأخبار هل من خطب ما؟

-         لا ليس هناك من خطب إلا أن تشظي معركة في الجنوب ستشعل المنطقة بأسرها.

-         ماذا يا إلهي وأحمد أين أحمد ؟!

عندها سكت الجميع وبدت أمارات الحزن على وجوههم.

نزلنا إلى الطابق الأرضي و لم نكد نمضي الليلة الأولى حتى بدأت أصوات الطائرات تهدر في قلوب الفزعين، تملّكنا الخوف على أبي؛ فقد مضى دونما ذكر المقاصد، رحل وتركنا في جزع مرتاعين، لم نعرف حاله، إذا كان ظمآناً أو مرتوياً، حياً أو ميتاً.

 بعد عدة أيام اتصل بنا الجار علي، إنه جارنا القريب:

-         والله لقد رأيته، رأيته أنا متأكد

-         لا تكذب قل الحقيقة.

-         أقسم بالله العظيم، رأيته، وسلّمت عليه  و....

هذا كان آخر ما قاله الجار قبل أن ينقطع الإتصال بفعل إنهمار القذائف والتشويش على الأراضي اللبنانية.

مرّ أسبوع على مكالمة الجار، وأمي ما انفكت تشعر بالقلق وعدم الإطمئنان ، فقلت لها: "يا أماه لا تجزعي فالجار قد طمأننا ما دهاك، ما خطبك؟".

-         وما أدراك مرَّ أسبوع، وفي أسبوع تكوّن الكون بأمره.

-         أنت تغالين، دعكِ من هذا الكلام

وما كدنا ننهي المحادثة حتى قاطعنا صوت قتح الباب قد فتحه العم حسن، أراد الإطمئنان لحالنا فكيف يترك أولاد أخيه لوحدهم يعانون مطبّات الحياة وويلات الحروب . بين التخبط واللّوعة، تتجاذبنا الأفكار وتحطُّنا الأمواج. إستقبلنا العم بعبارات الإستقبال ،إحتفينا به فقد مرَّ وقتٌ مذ رأيناه آخر مرّة ،إتكأ على الأريكة، وزفر بصوت عال ,مسح على رؤوسنا، أأصبحنا أيتامًا؟  هكذا قلنا في أنفسنا ولكن الموضوع كان أكبر من ذلك بكثير، طلب منّي الإقتراب منه ،فعلت ذلك، فنطق أخيراً وقال:"دعني أشم ريح والدك، المغيب" ترفرفت أجفان أمي، غُسِّلت بالدموع. استدعى والدتي أخبرها بما ظنَّت واعتقدت، صبّرها، قال:"إنا لله وإنا إليه راجعون".

 بالطبع لم تخبرنا أمي، لم يطب لها أن ترى أولادها في حالٍ يرثى لها، في حزنٍ أو في نواح، بكت وحيدة، قنطت من الحياة ولكنها تعزّت بالحوراء، وتصبّرت حتى لا تثير الشكوك.

ولّت حرب تموز. انتظرنا وانتظرنا ولم يعد أبي ..  في الليل أتى المعزّون، لم نكن نعلم بأنهم كذلك، ولكن أمي على دراية، انتظرنا والدي، لكنهم وأمي انتظروا الجثمان، كان بعضهم نعساً يغلق عيناً ويفتح أخرى ينظرون إلى أيتام أبي جواد، يتحسّرون، يخبئون دموعا، والبعض الآخر منهمك لإكرام الميت.

كانت قدسية الشهادة تلف المكان، وعبق العز يملأ القرية الصامدة المحرومة، وكان هم الجميع كيفية نقل الخبر للأبناء الأيتام، حركة غير اعتيادية، نظرات متساءلة، كيف سينشأ هؤلاء الصغار؟ من سيعوضهم حنان الأب؟

لقد تجاسر عمي وكفكف دمعه وتقدم من المنتظرين، ليبوح بسر الوالد الغائب، لكن القدر تولى ذلك عنه؛ فقد توقفت سيارة امام المنزل وترجّل منها رجل صنديد، لا، ليس من المعزين، إنّه والدي ...لقد عاد...

 

 محمد جواد حمية

التاسع الأساسي

أنت روحي والحياة

    كانت الشمس تحاول الاختباء وراء الأفق، عندما أخذت تلملم خصلها الذهبيّة عن كتف الوادي في بلدة تمنين، وتجمع ما بقي من أنسجتها المتلألئة على نافذة الحاجة زينب، ومع اختفاء آخر ومضة من لمعان الشمس الأرجوانيّة صرخت أمّ حسين بصوت يقطّع نياط الفؤاد قائلة: ارحمني يا ربّ! خفّف عني هذه الأوجاع، وخذني إلى عالم الملكوت علّ آلامي تهدأ. ارحمني ياربّ، واشفِ كلّ مريض، ومنّ عليّ بالشفاء أو بالموت، الرحمة، ارحمني يا ربّ".

خلال هذه المناجاة كان حسين يقف وراء الباب، يمسح الدموع من عينيه، يتوسّل بخشوع إلى الله، يردّد دعاء والدته، وعندما أحسّت بحركة خلف الباب، غيّرت جاهدةً نبرة صوتها قائلة: بنيّ حسين، ألم تذهب إلى عملك بعد؟ سوف تتأخّر يا بنيّ، اذهب ولا تقلق، أنا بخير الآن، ولا أشعر بأيّ ألم، فقد خفّف الدواء الوجع. اتّكل على الله والتحق بعملك.

-  إنّه يوم عطلتي، والإجازة السنويّة بدأت من اليوم، والدوام الليلي أمسى يومًا واحدًا في الأسبوع. لا تقلقي.

-  حماك الله يا بنيّ  من كلّ سوء. ألله يرضى عليك يا ابني.

فقد تقدّم حسين بطلب إجازة، بعد أن أخبره الطبيب بأنّ والدته دخلت مرحلة الخطر، ولم يبقَ إلا أيّام قليلة أمامها، فإحدى كليتيها أتلفت كليًّا والكلية الثانية هدّ قواها شبح الكسل، فغدت تعاني فشلًا كلويًّا خطيرًا.

أتمّ حسين كافة الفحوص الطبيّة وحجز سريرين في مستشفى دار الأمل الجامعي، استلقى على فراشه بعد أن خارت قواه، فمرض الوالدة هدّ قواه، وصراخها  مزّق جدار سكينته، فأمسى يقضي ليله، يحارب القلق والأرق بقراءة الأدعية، وأضحى يمضي نهاره، جسدًا يحرّك آلات المعمل، وروحًا تناجي الله، ولسانًا يلهج بالدعاء، وعينين دامعتين ...

مسح حسين الدموع من عينيه، حمل الهاتف  وأجرى اتّصاله بالطبيب.

- ألو، السلام عليكم دكتور.

- وعليكم السلام. أهلا يا حسين. كيف حال الوالدة؟

- ما زالت ترزح تحت وطأة الألم، تعضّ على الجراح وتحاول إخفاء ألمها عنّي.

- كان الله في عونها.

-  أكلّمك الآن لأؤكّد موعدنا غدًا.

-  أنت متأكّد من قرارك؟!

-  نعم، أنا متأكّد.

-  هناك خطورة على حياتك، لا تقلّ عن الخطر الّذي يحدق بالوالدة. ونسبة نجاح العمليّة عشرة بالمئة فقط.

-  والتسعون الباقية يهبنا إيّاها الواحد الأحد، فقد اتّكلت عليه وسلّمت أمر والدتي إليه، فهو حسبي ونعم الوكيل، ولن يخيب أملي أبدًا.

-  اتّكلنا على الله، موعدنا غدًا عند الساعة السابعة صباحًا إنشاء الله تعالى.

-  شكرًا دكتور.تصبح على ألف خير.

-  وأنت والسيّدة الوالدة بألف خير.

تسلّل حسين إلى غرفة والدته، اقترب منها، ففوجئ بهدوئها؛ لا أثر لصوت أنّاتها، مطبقة الجفنين، جبينها مرصّع بقطرات من اللؤلؤ الفضيّ، زاد من وقارها وهيبتها ابتسامة علت محيّاها المبلّل بزخّات العرق. تحسّس أنفاسها، هزّها بقوة، فلم تبد حراكًا. صرخ  بأعلى صوته: أمّي، أمّي، ردّي عليّ يا حبيبتي. أرجوك لا تتركيني يا أمّاه. ردّي عليّ، فأنت روحي والحياة ....

ومع تعالي صراخ حسين، توافد الجيران بالبكاء والعويل إلى منزل الحاجة زينب، وألسنتهم تلهج بالدعاء لها أملًا ببقائها على قيد الحياة.

تقدّم جعفر (الممرّض المشهود له ببراعته في عالم الطبّ) اقترب من أم حسين، تحسّس نبضها، وصرخ قائلًا: مازال نبضها يعمل، اتّصلوا فورًا بالإسعاف، هيّا اتصلوا!

أمّا هو، فباشر بالإسعافات الأوّليّة.

وصلت سيّارة الإسعاف، حملت الحاجة  على النقّالة، وبعد أن أدخلت إلى كهفها، أخذت السيّارة تنهب الأرض نهبًا، وصوت صفّارتها يلعلع، ويمزّق أسدال الليل ... ويدخل الخوف إلى قلوب أبناء المناطق التي تمرّ فيها هذه السيّارة، وكلُّ منهم يدلو بدلوه الطافح بأصدق عبارات الدعاء، لمن تقلّه الإسعاف، دون أن يعرفوا من يكون، فكلّ مريض بالنسبة إلى أبناء هذه القرى هو فرد من أفراد عائلتهم، يخشون عليه من كلّ سوء ومكروه، ويتمنّون له حياة هانئة ملؤها السعادة والعيش الرغيد. فهذه هي أخلاق أبناء القرى، وأتباع محمد وآل بيته (ع) .

أدخلت الحاجة غرفة الطوارئ، استدعي الأطبّاء المولجون علاجها: طبيب البنج، الطبيب الجرّاح، طبيب القلب ...

استدعى الدكتور مصطفى، حسين الابن البارّ، فوجده مكسور القلب خافض الجناح، منهار القوى، لكنّ هالةً نورانيّة تجلّله، إنّها هالة الأمل بشفاء الوالدة، ومدّها بنبض الحياة والتعويض عمّا لحق بها من هموم وأحزان ومآس. فهي الأم الثكلى التي فقدت ابنتيها، والزوجة الأرملة التي فقدت زوجها....

-  ماذا تقترح الآن يا حسين؟

-  أقترح التعجيل في العمليّة.

-  أأنت متأكّد؟

-  بكلّ تأكيد، وأكثر عزما وتصميما من ذي قبل.

-  بعد ساعتين من الآن، يكون كلّ شيء جاهزًا.

-  توكّلنا على الله، أملي به كبير ...

توجّه حسين إلى حديقة المستشفى، توضّأ، صلّى ركعتي التوسّل بمحمد وآل بيته، وباشر بالدعاء.

حان الموعد، فأدخل كلُّ من حسين ووالدته غرفة العمليّات، مرّت ساعات، والجيران والأقارب في باحة المستشفى، هذا تبرّع بوحدة من الدم، وذاك بوحدتين، وآخرون أخذوا يدعون بالشفاء للوالدة، وللابن البار الحنون ...

أشرقت الشمس، وأرسلت ضفائرها الذهبية على سهل البقاع، وراحت خيوط نورها تتسلّل إلى غرفة العناية الفائقة في مستشفى دار الأمل، تتفقّد حال المرأة وابنها، فبعد ستّ ساعات قضاها الاثنان معًا، نجحت العمليّة بإذن الله تعالى، فالابن عادت إليه طمأنينته الهاربة، بعد أن استؤصلت كليته، وزرعت في جسد والدته، فعادت إليها الحياة بفضل الله وكلية ابنها، فإذا بالجسدين يتلاحمان ماديًّا ومعنويّا، وبالمحبّة تشتدّ أواصر التلاحم والتعاضد.

أضاءت الشمس الغرفة، وحطّت رحالها العامرة بدفء الأمل والحياة على محيّا حسين، فأيقظته من غيبوبة تأثير الأدوية المخدّرة، وأوّل كلمات نطقت بها شفتاه: أمّي، أين أمّي؟ أخبروني، هل نجحت العمليّة ؟

-  أجاب الدكتور مصطفى: اطمئن يا حسين لقد نجحت العمليّة _ وبفضل الله _ مئة بالمئة.

حمدًا لله على سلامتكم. استرح، ولا تجهد نفسك.

-   حمدًا لك يا ربّ، وشكرًا لك يا دكتور. هل أستطيع رؤية أمّي؟ أرجوك.

-   انتظر قليلًا، ريثما تستفيق من أثر المخدّر.

أدخل حسين على كرسيّ مدولب غرفة والدته، وكان اللقاء. اقترب منها، غمرها بقوّة، فأجهشت بالبكاء وأطلقت عبارات أبكت الحاضرين من الطاقم الطبيّ ...

شيم وأخلاق رفيعة يتحلّى بها هذا الشاب، وعمليّة الإستئصال زادت من رصيده الأخلاقي، فغدا شابًا يحتذى به بين أقرانه في المجتمع، تحرسه عبارات الرضا وكلمات الدعاء بالتوفيق والحياة الهانئة من قبل كلّ من يعرفه، وكليته التي زرعت في أحشاء والدته غدت ملاكه الحارس؛ كيف لا؟ ودعاء والدته بالرضا والتوفيق والسداد أضحى مظلّة تقيه شرور الزمان وغدره، وتمدّه بظلّ الطمأنينة واليسر أينما اتّجه وكيفما سار.

 

محمد رسول حمية

السابع الأساسي

 

 

قصص من وحي الشهادة والجهاد

"إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون...فسبحان الّذي بيده ملكوت كلّ شيءٍ وإليه ترجعون...صدق الله العلي العظيم..." بذا ختمتِ السّورة فسُرّ الخامدونْ، أغلقتِ المصحف على صفحاته المبلّلة بدمع الجفونْ، ثمّ قبّلته وراحتْ تغسلُ القبرين بالماء وعبراتِ قلبها المحزون، واقفةً تُطهّر الأرجاء بالبخور والشوقِ المكنون، ما إنْ التقتْ عيناها بعينيِّ بعلِها الحنونْ، حتّى سألَته: "أَرَحَلوا؟" بصوتٍ أنهكته الشّجونْ، أجابَها وفؤادهُ بها مفتونْ: "ونحنُ راحلونْ".

             -أمرتاحون أم خائفون معذّبون؟

   ردّ ماسحاً دمع تلك العيون: "ما للشّهداء هذه الظّنون! إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شُغلٍ فاكهون". فابتسمت وراحت بين القبرين تدور، في صدرها شوقٌ يفور، وفي عقلها فكرٌ يثور، يؤلمها التّفكير في كلّ الأمور...رغم مضيّ السّنوات بَقيَ ذاك الشّعور: شوقٌ للاثنين و دعاءٌ على الأعداء بالثبور. حتّى ذلك اليوم بقيت ذكراهم تُبكِيها، تندب أمّها، تشتاق لأخيها، فلا صدر أمٍّ يحضنها، ولا كتف أخٍّ يحميها، وحده وجود زوجها وإخوتها يحييها، وبقاء أبيها يعزّيها، فأنشدت ولوعة الفراق تدميها:

مالي كلما أحببت امرءًا عني يغيبْ       وكأن نبض قلبي يبعدُ الحبيبْ

ربّاهُ ذكراهم تعذّبني فإليك أنيبْ       هلّا شفيتَ  شوقي بحتفٍ قريبْ

آنها مسح حسن دمع جفنيها، قائلاً بعد تقبيل يديها:

هي الدّنيا أمرها عجيبْ             يومٌ جميلٌ آخر عصيبْ

ولكِ في قلبي مكانٌ رحيبْ        فداكِ روحي دعي النّحيبْ

لنا إمامٌ علينا رقيبْ  له            الشّوق يدمينا لطولِ المغيبْ

فصبرًا حبيبتي علّنا نُصيبْ       مع المهديّ نصرًا قريبْ

أو يكون لنا بالشّهادة نَصيبْ      سوياًّ لنداء الآل نُجيبْ

ثم غادرا جنّة الشّهداء، بعدما ودّعت أمّها "زهراء"، ولثمت قبر أخيها "علي"، طالبةً من روحهما الدّعاء...عند وصولهما إلى المنزل، سمعت صوت أبيها: "زينب، زينب..."،  دخلا فسألته لِمَ يناديها، نظرها مبتسمًا والفرحة في عينيه يخفيها، بعد أن سلّم عليها وأهّل فيها، أجاب: "كنت أبحث عن الهاتف لأزفّ إليكم النّبأ"

-خيرٌ إن شاء الله، ما النّبأ؟

-لقد وُقّعت الأوراق، وسأسافر بعون الله إلى الجمهوريّة الإيرانيّة لإجراء العمليّة الجراحيّة...

    أما في نفس زينب فكان للخبر وقعٌ آخر، أهو أملٌ عاد يحاكيها أم خوفٌ بات يسكنها؟! سألته وسمات الدّهشة تحويها: "حقًّا؟! متى؟!"

-الأسبوع المُقبل بإذن الله سيصحبني الشّباب من مؤسّسة الجرحى

أردف حسن: "وبإذنه ستُعافى زتعودنا بالفرحى".

   ما هي إلاّ لحظات حتّى دخل "عبّاس" و"فاطمة" بالثّياب المدرسيّة، وحضنا أختهما بشوقٍ وحنيّة، فبعد رحيل أمّهم وأخيهم، صارت الأمّ الرّؤوم والصّديقة الوفيّة...

    وسرعان ما سألها عبّاس: "أعلمتما بالعمليّة؟"، وفيما ابتسم حسن مجيبًا، ومضت كلماته لزينب ذكرى أمّها "زهراء" آن وضعت "فاطمة"، كانت إحدى ليالي الشّتاء، عندما أسرتهم عاصفةٌ ثلجيّةٌ بيضاء، غياب الشّمس عن مدينتها غيّب الهناء، فرسول السّلام جلب لهم الأيّام السّوداء... أثناء تلك العاصفة كان وضع أمّها قد ساء، وتعسّر عليهم  الجلاء، كم تمنّت آنها لو يحملها الهواء، فتصل إلى المشفى وتتماثل للشّفاء... لا زال صدى صراخها في أذنيها، وألم عذابها أمام عينيها، صوت وجع والدتها ملأ الأرجاء، وزينب –ابنة السّنوات السبّع- ما بيدها خلاصٌ سوى البكاء. غبار السّنوات الثّلاث عشرة يرقص على جرحها فلا تذكر إلاّ الدّماء...

    أمّا في غرفة العمليات فبدأت نهاية المأساة، على سرير الولادة مُثّلت مسرحيّة الفناء، حيث قدّمت الأمّ روحها لابنتها فداء، فذبلت بسمة الفرح بالولادة بدمعة الحزن على الوفاة، وكانت وصيّتها الأخيرة أن تُدفن في جنة الشّهداء، وكان لها ما تشاء، لعلّه شوقٌ سبقها، أو حدسٌ أخبرها بأن بكرها سيُدفن هناك،

 

وتكون الجنّة روضةً للقاء...

    ومع تلك الذّكرى، صفعت زينب عبرةٌ دافئة فأيقظتها وأعادتها إلى واقعها. كان الخوف يأكل خلاياها  والقلق يهزّ حناياها ... كونها ممرّضة تعلم مسبقاً بأن لا أمل يُرجى من العمليّة، وجهود الأطبّة ستكون هباءً منثورًا. فالجرح الّذي وسمته به حرب تمّوز الماضية، لم تدمله السّنوات السّبع السّابقة، بل دمست آلامه بين أعضائه الواهنة، من بعد الإصابة بات يعدّ أياّمه الباقية، أمّا آمال الشّفاء فجمّها واهية...

     بعد أسبوع، اجتمعت العائلة مجدّداً للوداع، كان "أبو عليٍّ" يعيش وزينب حالة الضّياع، وليُخبرها بخوالج فؤاده قال: "أعلم أنّ بلاد فارس ستكون لي مصرع، بيد أنّ لي في شفاعة الرّضا وزيارته مطمع، كما أعلم أنّ بالكم بالفراق مُروّع، لأجل راحتي يا أحبّـتي لا تدَعوا أعينكم تدمع ..." ختم مبتسماً.

وأحشاؤه عليهم تتقطّع، ثمّ رحل...رحل بعد أن نال كلّ واحدٍ منهم نصيبه من الوداع، وعزف الفراق على عظام صدورهم للحزن إيقاع، أخيرًا كان إلى "غريب طوس" الإقلاع... حيث جمال الدّنيا يصبح فناء، وملقى الغريب جنة البقاء.

     ودارت دوامة الأياّم، لتبدأ الحرب مع اللّئام، فما كان لعيون رجال "زينب(ع)" أن تنام، لذا شدّوا الرّحال، وقطعوا  الأميال، وزحفاً انطلقوا صوب الشّام، ليحاموا عن بضعة فاطمة وعقيلة الإمام، فاحتار "فخر" زينب بين بعلها وأخيها، كيف لا وكلاهما حماة المقام؟! أما فكرها فاختار الانفصام: نصفه في إيران والآخر في الشّام. 

     وفي إحدى اللّيالي لاح لها طيف منام، استيقظت لتسرح رواسب أحلامها في الظّلام، وتتأكّد أكان حُلماً أم مجرّد أوهام، فيما كان الأنام نيام أيقظت بسملتها أختها فاطمة الّتي بادرت بالسّؤال :"خيرٌ إن  شاء الله؟! ما رؤياكِ يا أختاه؟!"

-        رأيتها والّذي اسمه الرحمان والسّلام، بضعة الرّسول أقبلت من فوق الرّكام، حدثتني بأجمل الكلام، قالت لي: "إن عاد عبّاسك قبّلي كفيّ هذا الهُمام وزلّلي كلّ مصائبك بذكر الآل الكرام"، وإذ ما بكيتُ بين يديها، مسحتْ عبراتي براية قبّة المقام... ثم أيقظني صوت الآذان...

-        جعله الله خير الأحلام، فلنصلِّ وندعو لأخي المقدام ...

 بعد تأدية عمود الإسلام، وكالعادة معاهدة الإمامعج، انطلقت "زينب" إلى الدّوام. وفيما كانت تتطلّع على أخبار حرب الشّام، استحضرت كربلاء آن نُصبت عليها الأعلام، يومها غصبوا "فدك" واليوم يريدون المقام، اليوم يحرقون "سوريا" ويومها أحرقوا الخيام، فأين من أسلحتهم السيّوف، بل أين السّهام؟! وقد جئناهم في عشق الآل أيتام، يومها خانتنا العشائر والسِّوام، واليوم بحزبنا نبخرهم كما الغمام، فلا تعصى على الأُسد بعض الأغنام، سيرون بأمّ أعينهم عمق الهيام، اليوم تبيدهم بدايات ثورة الإمامعج ...

 ما إن وصلت إلى "قسم العناية"، حتى باشرت بالإطمئنان على المرضى، تاركةً الحظّ الأوفى من اهتمامها للجرحى، وعندما لدغت عقارب السّاعة الخانة الثّالثة، وصلتها رسالةٌ قصيرة من فاطمة، تقول فيها: "أسرعي بالعودة إلى الدّار، فقد عاد الزّوّار..." ومع إبصار أحرفها الجامدة، جمد الدّم في عروق القارئة، تتساءل عن الزّوار: زوّار زينب أم جريح الرّضا في إيران؟! وعبثاً حاولت معاودة الإتّصال، إذ انقطع الإرسال. كان دوامها قد شارف على الانتهاء، فبدّلت مريلتها البيضاء.وفيما كانت توقّع أوراق المغادرة، أُحضر جريحان، ومن إنشغالها بالرّسالة – دون الالتفات إليهما - غادرت المكان ...

وكانت المفاجأة على أعتاب الدّار، استقبلتها "فاطمة" ودمع عينيها يهطل كالأمطار على وجنتين حمراوين كالمرجان. حضنتها "زينب" ورفات الوجل فيها تلتهب كنار: "أختاه بوحي بالمكتوم من الأسرار، أطلعيني الأخبار، ما حال الزّوار ؟"

-درب الصّبر يا زينب مرّار، فاذكري "يتيمة محمدٍ" علها تُزيح عنك الأوزار, غاب يا أختي من كان بالأمس الرّكن و الدّار، روحه عرجت إلى السّماء و هامته هامدةً تأتينا من المطار ...

لكلمات "فاطمة" أحسّت "زينب" بالدّوار، متأمّلةً لو تتغيّر نتيجة الحوار، ما لبثت أن ومضت في عينيها الأنوار، و وقعت مغميّاً عليها فوق أوراق الأشجار ...لحظات و استعادت وعيها في حضن أختها   لتسمع عبارات التّرجيع و الاستغفار، تمنّت آنها لو يُحلّل الانتحار, فعلى ألم الفراق تُفضل الاحتضار . ها هي تقف مجدّدًا أمام عسف الأقدار، ترجو رحمة الباري مسلّمةً لقضاء القدّار. راحت تتساءل كيف تنام اللّيل و تقوم النّهار؟, قد رحل والدها و ثانيةً فاتها القطار,فإن سألتها ورود الدّار عن ساقيها بمَ تجيب الأزهار ؟ وكيف تُهدّئ روع يتيمةٍ نشب الحزن في قلبها أنيابه والأظفار؟ بل بمَ تجيب مقاومًا غادر ليمحو بصمة العار؟ "أبو عليٍّ" ورغم طول الإنتظار، استطاع اللّحاق بركب شهداء الانتصار. وكان أوّل من تذكّرته يتيمة المختار ع ": بضعة الرّسول رغم المعاناة أبت الإنهيار، وأنا اليوم أحاول الفرار ؟! هيهات ...حتّى آخر رمقٍ فيّ سأُكمل المشوار ..."قالت هذا مستجمعةً ما بقيَ من قواها، مُحاولةً الصمود والاستمرار ...

 

 سألتها "فاطمة" و تنهّدات البكاء تُكسّر صوتها ": أختي، كيف نخبر "عبّاس"؟، و متى تُشيّع الجنازة و نُعلم النّاس ؟ "

فأجابتها":إن حرارة رحيله حشرجةٌ تحبس هيام فؤادي, فصبرًا عليّ يا أنيسة أحزاني، أخاف أن يغدر بأخي العدوان، إن اعترى قلبه الأسى و الحنان، و عندما تصل جثّة أبي من إيران، نشيّعها و الأقارب  والجيران".

     و مع إشراقة اليوم التالي أزاحت ملكة البهاء بأصابعها الدّافئة بعضاً من ستائر السّماء الدّاكنة و ألقت بأشّعتها العسجديّة على غيومٍ متلبدّة فلوّنت أطرافها، أيلول عاد و ما من ارتحالٍ لصمته إلاّ عند الرّبيع، فالطّيور تركت له حيّزًا في السّماء ليستريح، و الأشجار أعرت أغصانها لتصافحه و الرّيح، وطيوره المهاجرة تؤكّد أنّ الرّحيل مكتوبٌ للجميع ... بالرّغم من أنّ اليوم عطلتها، فاجأ "زينب" اتّصالٌ من المشفى لمزاولة عملها، فأسرعت لتأدية واجبها, إذ اشتدّت المعركة و كَثُر جرحاها...

   -" آجرك الله على مجيئك يا "زينب", بالأمس أتانا جريحان كان وضعهما خَطِرًا، هلاّ اطمأنّيت عليهما؟" قالت لها زميلتها متابعةً عملها ... بينما كانت تنفّذ ما أُمليَ عليها، لفتها اسم "عبّاس" على باب أحدهما، هرعت إلى غرفته ليصدمها مقاومٌ مقطوع الكفين، مضمّد الرّأس، مُغمض العينين . عرفته...

 وكيف تجهل الحنونة أخاها ؟! إنّه هو حامي زينب، حبيب فاطمة. صرخت باسمه وهي صامتة، ووقفت دقائق أمامه واجمة ... ثم دنت منه ومقلتاها دامعتان، مقبّلةً جبينه قائلة ": بنفسي أنتِ مولاتي يا فاطمة، كيف أُنفّذ وصيّتكِ الآنفة؟ ولا كفوف أُقبّلها ولا أيدٍ ألثمها، ألا فانظري حال المقدام أمامي..."

        راحت "زينب" تنسج من الصّبر مناديل الدّمع، تشرب التّجلّد في كؤوس الأسى، وتعبّد بالحسرات دروب الرّحيل, باحثةً عن المرسى ... تُحمل الأياّم ما اعترى في نفسها، شاكرةً اللّه على المصاب الجليل, مُسلّمةً بأنها لم ترَ إلاّ الجميل. وكان اللّطف الإلهيّ عود "عبّاس" وإن كان جريح، وسلامة "حسن" بعد المحاماة عن أخت "الذّبيح".

     وأخذت "الرّوزنامة "تُقلّب صفحاتها، و تُغيّر تواريخ الأياّم و الأزمان، حتّى كان في بداية العام التّالي ما كان: إذ فُتحت الجبهة مجدّدًا مع العدوان، مع اللّعنة أبناء أبي سفيان، و ليُرَدّ عن الأهل جور السّفلة

والطّغيان، هبّ لإبادتهم شبابنا الشّجعان. فكيف نقف على الحياد والهلاك يهدّد لبنان ؟! أَنَهابُ موتاً

والسّلام كلّه في بياض الأكفان؟!

 الوجهة جليّة و"القصير" هي العنوان ... و كان "حسن" في طليعة الشّبّان, الهمّ وحده ردّ العدوان، فلا جبهة نصرةٍ تبقى ولا داعش ولا الجيش الجبان، كلهم سيعدمون برفّة جفنٍ لأبطالنا الفرسان ... فيسيطر رجال مقاومتنا على الميدان بنداء":لبّيك يا صاحب العصر و الزّمان".

     وهناك وقفت زينب تهزّ بصبرها الأركان، داعيّةً أن يتقبّل الكريم منها القربان. قد سلّمت الأمانات

وتسلّمت الأشجان، خاطبت قبور أحبّتها في جنة الرّضوان، و عيناها مع الدّمع ستنمهلان، قالت: "أقف على قبرك يا أبي، والذّكريات تمور في وجداني، هل تذكروني أم قد اعتراني دجى النّسيانِ ؟! أنا التي ثملت لياليّ من الأحزانِ، وتوقّف بعد رحيلكم زماني، فأضعت في هذه الدّنيا مكاني، داووا فؤادًا مكسورًا برؤياكم ينجبر، فعبراتي على فراقكم كالسّيل تنحدر، وفيّ بركان شوقٍ كلّ دقيقةٍ ينفجر..."

   في تلك اللّحظات استرعى انتباهها قبر أخيها "علي"، تذكّرت بسماته حين يلاعبها، ونظراته حين يحاكيها: "أخي، رحلت إلى الحرب ناسياً طريق الإياب، قتلك يهوديّ تموز يا خيرة الشّباب، و قد جئتك واقفةً أمام الأمواج العاتية لرياح الجفاء، فهل ستمخر سفينتك عباب هذا الفضاء؟ ما مضى لقاءٌ بلا فراق، خوفي أن يمضي فراقنا بلا لقاء..."

        أما حسن فكان يودّع جدران "مسجد الإمام عليع " و الأبواب . بعد أن صلّى ركعتين في المحراب، توضأت وجنتاه بدموع شوقٍ لسيّد الشّهداء، فكلّ ركنٍ في المسجد فيه عطر الدّماء . بالأمس كان حول "عبّاس الموسوي"يتجمّع الأتراب، منصتين بقلوبهم، مرتشفين بأعينهم كلمات الخطاب، و اليوم تراهم أعينًا تحرس جبالًا، ترعى الهضاب . يدنيهم للقائد توقٌ، أملٌ باللقاء ... قد ولد بين جدران الكعبة "أبو تراب",و السّيّد بارك ولادة أشباله في بيت الله، فكانت رصاصةٌ قضت على باقي الأحزاب, مثبتةً أنّ "حزب اللّه" للأبد هو الغلّاب.

    ثوان ٍو مزّق صفحات تفكيره نداءٌ باسمه الجهاديّ":تراب...زوجك بانتظارك". ما إن علم حتّى قبّل الأرجاء ببريق عينيه، مُلقياً على الرّفاق تحيّة أهل الجنّة، و أسرع لرؤية "زينب" التّي  كانت واقفةً  في حديقة المسجد كالزّهرة بعبائتها السّوداء، زهرةٌ في أيّار تفتّحت آن لامستها أشعّة ذكاء ... دنا منها فسمعها تتمتم بفاتحة الكتاب، عيناها على المقبرة تحدّث بصمتٍ الأحباب . و عندما أبصرته ابتسمت مسلّمةً بعينيها قبل الكلام, في تلك العينين كان "حسن" يفهم ما يعجز عنه بقيّة الأنام، يراها تلمع كالنّجوم وسط الظّلام، كيف لا و هي نفسه تشاطره الحياة و حتّى المرام...

   سألها ناظراً إلى بطنها ":كيف حال طفلنا الصّغير ؟" أجابت مبتسمة، و كأن مناها الوحيد أن تسمع ما استطاعت صوته الجميل، و كان لها ما تمنّت ":أتذكرين عندما زففت إليّ النّبأ ؟ كنّا هنا في احتفال ولادة الرّسول قبل سبعة أشهر، و قد نذرت الطّفل للمقام "

فضحكت ضحكةً خافتة قائلةً":أجل، أوأنسى واجبًا ؟.

-ما رأيكِ بتسمية المولود "محمّد"؟

-إن شاء الله يا أبا محمد ...

   ابتسم مطبقاً على شفتيه يروم وداعها، و تعصيه الكلمات في حضورها . سألته عيناها ساحبةً أحرفًا أخفاها، فقال ":يُذكر أنّ أمّ ياسر قبل شهادتهما، قالت للسّيّد":أنا حوريّتك يا سيّد في الدّنيا و الآخرة "

-و أنا حوريّتك يا تراب ...في الدّنيا و الآخرة .أ أتسمح لي أن أزور الجنّة في غيابك ؟

  مقبّلاً جبينها أجاب ":أخاف عليكِ أن تأتي وحدكِ,انتظري عودتي,وعدٌ لمقلتيك ما إن أصل حتّى نزورها سويًّا.."

     و مضى إلى الشّهادة، و مضت معه الأيّام، فكان في القصير ما لا يحمله لبّ عاقل، سيطر الشّباب على المداخل، و لم يبق من السّلفة السّفلة إلاّ القليل ليُقاتل .بيد أنّ مرور حربٍ دون شهداء كلامٌ باطل...فكلما ارتفعت وتيرة الحرب زاد الجرحى، و ارتفع شهداءٌ أفاضل .و"زينب" بقيت تزاول العمل رغم أنّها حامل، تسأل عيناها عن "حسن" كلّما وصل مُقاتل . تبكيه في عتمة اللّيل و نهارًا تناضل، تتصبّر بالغريبة و فداءً لعينيها تُكابر.كلما زُفّ شهيدٌ بدت كالورد الذّابل...

      و قبل أن تُطهّر الأرض بالكامل، جاءهم جريحٌ، في عينيه آلاف الرّسائل، أخرج من جعبته ورقةً طهرّها دمه السّائل، و سلّمها لزينب قائلاً أنّها من "تراب" . شمّت الرّسالة و قد غسل الدّم الّذي عليها دمع عينيها، ففيها عطر الجهاد و نسيم أرضٍ حُمل من كربلاء .قرأت بعد عبارات الحمد و الثّناء، و الحبّ و الشّوق للقاء :

   يوم الخميس الّذي يصادف بعد غد, سأحاول الاتّصال بكِ السّاعة السّادسة مساءً.حبيبتي أشهد بأنّك أدّيت جهادك في حسن التّبعّل و أحسنت، فادعِ لي أن يقبل الله جهادي.

       حملت أسفاري و جئتك متّكئًاً      أقدّم لكِ ما عبّرت عنه جراحي

       فاقرأي منّي أكان صوابًا أم خطأً     لعلّك تكونين متّكئي و سلاحي

       استعين به عند كلّ ضائقةٍ       مستبدلاً أياّم هزيمتي بناحي

       و كلمة حقٍّ تُقال في نهاية     لا حرمني الله منكِ يا حياتيب    

     فبعين بصيرتك أستبصر          و الصبر للقياكِ بات محرابي

               اعتني جيّدًا بنفسك، و بنفسي الّتي استودعتها فيكِ، محمّدنا...أحبّكِ  

                                                    تراب

      فجر الخميس استيقظ "كربلاء"صديق "حسن" على ترتيله لآيات القرآن، أنصت حتّى أنهى فسأله مبتسماً  ":أتصلّي قبل الآذان ؟"

-        ألا يحبّ الحبيب خلوة حبيبه؟!

-        أراك هائماً يا صديقي في هوى الخالق، أفلا تركت شيئاً للمخلوق ؟

ابتسم تراب مجيباً لسؤال صديق الحرب الجنوبيّ ":بلى..تركت الكثير,أسكنت الخالق حرم قلبي، و أعطيته لزوجٍ خلقها من نفسي ..."

-فليجرك الله من هؤلاء الأغبياء، إن سمعونا اقتلعوا قلبك لملاقاة الله...

    و بضحكةٍ علويّةٍ ختما حديثهما، و باشرا بمراقبة المكان، فهدوء اللّيلة الماضية يضعهم أمام خيارين :إمّا فرار المسلّحين أو تحضيرٌ للمعركة الأخيرة...تمركز الشّباب، كلٌ في موقعه ينتظر الأمر بالضّغظ على الزّناد.و عند سماع النّداء بتلبية مستأصل أهل التّضليل و الإلحاد، باشروا بتصفية أهل العناد.

     و قبيل السّاعة الخامسة تذكّر حسن وعده لزينب، فاغتم . كان المتوقّع أن يتوقّف إطلاق النّار قبل ساعة. أحسَّ "كربلاء " بانزعاج صاحبه، فزحف نحوه سائلًا  عمّا أهمّه . فما كان من الأوّل إلّا أن أخبره...قال كربلاء":لا عليك يا أخي، الآن نستأذن القائد المحوريّ و نعود إلى المركز آن يهدأ إطلاق النّار. لم يبقَ إلا خمسة ..." 

-        لا بأس، لن أترككم الآن، سنعود سويًّا بعد نصف ساعة بإذن الله..

بعد نصف ساعة، ساد الهدوء و غُلّف الفضاء بغبار القذائف، و لم يبقَ للتّكفيريّين سوى أثر الدّماء و الأشلاء، فحمل الشّباب جرحانا و الشّهداء. و بالتّكبيرات غادر الشّباب ... و بينما كانوا يهمّون بالمغادرة أبصر حسن قنّاصًا كالحيّة ملتفٌّ وراء عامودٍ على سطح إحدى البنايات...

  أمّا "زينب" فاستجدّ عملها و اضطرّت أن تبقى حتّى السّاعة . أوضاع الجرحى خطيرة و لن يتسنّى لها المغادرة قبل نصف ساعة . و عندما أنهت خرجت بثياب العمل، و استقلّت أوّل سيّارةٍ رأتها ...ما إن ترجلّت منها حتّى أسرعت دون الالتفات، فصدمت جانبها إحدى السّيّارات ...

      في تلك الأثناء، أطلق القنّاص رصاصته الغادرة لتخرق جمجمة "حسن" الّذي حاول جاهدًا ردّ الطّلقات عن أصدقائه، فكان درعًا لأجسادهم الطّاهرة و خوذةً لرؤوسهم التّقيّة ...وأمضت حياته أمام عينيه، و كان ثغرها المبتسم آخر ما أبصرته مقلتاه، فصرخ ":لبّيكِ... يا زينب " بملء شفتيه, و سقط مرتفعًا شهيدًا بعد أن أغمض النّجيع عينيه...

       إبّان ارتقاء روحه إلى السّماء, لعلّها التفتت إلى الوراء قائلة:

سألت روحي بعد طول عناء    كم أحببت في الكون من حوراء

أجابت و الرّوح تتنهّد فرحًا    هل للقلب متّسع لأكثر من ولاء؟

فرشت لها بين أجنحته وردًا      تفوّحت منه كلّ العنبر و الدّماء

جفّت عروقي و طعم بلسمها  سائحٌ  فاح عطره فوق كلّ الأرجاء

زينبٌ لكِ في القلب مرتبةٌ          لم يعتلها سواكِ من النّساء

لو كان السّبق لغيركِ لكنتِ أنت  خلاصة حبّي في الأرض و السّماء*

 و على السّرير في غرفة العمليّات، ابتسمت زينب و صرخ "محمّد" مستقبلًا آلام الحياة، و بقي أربعين يوماً تحت المراقبة حتّى تماثل للشّفاء، و ما لبثت ابتسامة اللّقاء إلا بضع ثوانٍ، قد أيقنت  زينب حينها أنه حان وقت الفراق، فاستودعت طفلها للدنيا تخلق له النّهار أماً و اللّيل أباً، تنهدت و امتثلت إلى الباري قائلة :"بحق ضلع الزّهراء لبيت لكِ الوفاء يا مولاتي يا زينب ".

 كانت هذه عبارة وداعها  و لسان حالها يجيب بعلها:

                         هات يدك و احملني إليكَ   فبعد الشّهادة يطيب اللّقاء

و أنا الملوعة قد رأيت كم  مزّقتني رياح الجفاء

فراشة قلبك  قد حلّقت  مسرعةً إليكَ تلبي النّداء

                    

"إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون...فسبحان الّذي بيده ملكوت كلّ شيءٍ و إليه ترجعون...صدق الله العلي العظيم..." بذا ختمتِ السّورة فسُرّ الخامدونْ، أغلقتِ المصحف على صفحاته المبلّلة بدمع الجفونْ، ثمّ قبّلته و راحتْ تغسلُ القبرين بالماء و عبراتِ قلبها المحزون، واقفةً تُطهّر  الأرجاء بالبخور و الشوقِ المكنون, ما إنْ التقتْ عيناها بعينيِّ بعلِها الحنونْ, حتّى سألَته ":أَرَحَلوا؟" بصوتٍ أنهكته الشّجونْ، أجابَها و فؤادهُ بها مفتونْ ":و نحنُ راحلونْ".

             -أمرتاحون أم خائفون معذّبون ؟

   ردّ ماسحاً دمع تلك العيون":ما للشّهداء هذه الظّنون !إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شُغلٍ فاكهون ". فابتسمت و راحت بين القبرين تدور, في صدرها شوقٌ يفور, و في عقلها فكرٌ يثور, يؤلمها التّفكير في كلّ الأمور...رغم مضيّ السّنوات بَقيَ ذاك الشّعور : شوقٌ للاثنين و دعاءٌ على الأعداء بالثبور.حتّى ذلك اليوم بقيت ذكراهم تُبكِيها,تندب أمّها,تشتاق لأخيها، فلا صدر أمٍّ يحضنها، و لا كتف أخٍّ يحميها، وحده وجود زوجها و إخوتها يحييها,و بقاء أبيها يعزّيها,فأنشدت و لوعة الفراق تدميها":

مالي كلما أحببت امرءًا عني يغيبْ       و كأن نبض قلبي يبعدُ الحبيبْ

ربّاهُ ذكراهم تعذّبني فإليك أنيبْ       هلّا شفيتَ  شوقي بحتفٍ قريبْ

آنها مسح حسن دمع جفنيها، قائلاً بعد تقبيل يديها:

هي الدّنيا أمرها عجيبْ             يومٌ جميلٌ آخر عصيبْ

و لكِ في قلبي مكانٌ رحيبْ        فداكِ روحي دعي النّحيبْ

لنا إمامٌ علينا رقيبْ  له            الشّوق يدمينا لطولِ المغيبْ

فصبرًا حبيبتي علّنا نُصيبْ       مع المهديّ نصرًا قريبْ

أو يكون لنا بالشّهادة نَصيبْ      سوياًّ لنداء الآل نُجيبْ

ثم غادرا جنّة الشّهداء,بعدما ودّعت أمّها "زهراء",و لثمت قبر أخيها "علي"، طالبةً من روحهما الدّعاء...عند وصولهما إلى المنزل,سمعت صوت أبيها ":زينب,زينب..."، دخلا فسألته لِمَ يناديها، نظرها مبتسمًا و الفرحة في عينيه يخفيها، بعد أن سلّم عليها و أهّل فيها، أجاب ":كنت أبحث عن الهاتف لأزفّ إليكم النّبأ "

-خيرٌ إن شاء الله، ما النّبأ؟

-لقد وُقّعت الأوراق,و سأسافر بعون الله إلى الجمهوريّة الإيرانيّة لإجراء العمليّة الجراحيّة...

    أما في نفس زينب فكان للخبر وقعٌ آخر,أهو أملٌ عاد يحاكيها أم خوفٌ بات يسكنها ؟! سألته وسمات الدّهشة تحويها ":حقًّا؟! متى؟!"

-الأسبوع المُقبل بإذن الله سيصحبني الشّباب من مؤسّسة الجرحى

أردف حسن ":و بإذنه ستُعافى و تعودنا بالفرحى".

   ما هي إلاّ لحظات حتّى دخل "عبّاس"و "فاطمة" بالثّياب المدرسيّة,و حضنا أختهما بشوقٍ و حنيّة، فبعد رحيل أمّهم و أخيهم، صارت الأمّ الرّؤوم و الصّديقة الوفيّة...

    و سرعان ما سألها عبّاس":أعلمتما بالعمليّة؟"، و فيما ابتسم حسن مجيبًا,ومضت كلماته لزينب ذكرى أمّها "زهراء" آن وضعت "فاطمة",، كانت إحدى ليالي الشّتاء، عندما أسرتهم عاصفةٌ ثلجيّةٌ بيضاء,غياب الشّمس عن مدينتها غيّب الهناء، فرسول السّلام جلب لهم الأيّام السّوداء...أثناء تلك العاصفة كان وضع أمّها قد ساء، و تعسّر عليهم  الجلاء، كم تمنّت آنها لو يحملها الهواء، فتصل إلى المشفى و تتماثل للشّفاء ...لا زال صدى صراخها في أذنيها، و ألم عذابها أمام عينيها، صوت وجع والدتها ملأ الأرجاء، و زينب –ابنة السّنوات السبّع- ما بيدها خلاصٌ سوى البكاء.غبار السّنوات الثّلاث عشرة يرقص على جرحها فلا تذكر إلاّ الدّماء...

    أمّا في غرفة العمليات فبدأت نهاية المأساة، على سرير الولادة مُثّلت مسرحيّة الفناء,حيث قدّمت الأمّ روحها لابنتها فداء,فذبلت بسمة الفرح بالولادة بدمعة الحزن على الوفاة، و كانت وصيّتها الأخيرة أن تُدفن في جنة الشّهداء، و كان لها ما تشاء، لعلّه شوقٌ سبقها، أو حدسٌ أخبرها بأن بكرها سيُدفن هناك،

و تكون الجنّة روضةً للقاء...

    و مع تلك الذّكرى، صفعت زينب عبرةٌ دافئة فأيقظتها و أعادتها إلى واقعها.كان الخوف يأكل خلاياها  و القلق يهزّ حناياها ... كونها ممرّضة تعلم مسبقاً بأن لا أمل يُرجى من العمليّة, و جهود الأطبّة ستكون هباءً منثورًا . فالجرح الّذي وسمته به حرب تمّوز الماضية،  لم تدمله السّنوات السّبع السّابقة، بل دمست آلامه بين أعضائه الواهنة، من بعد الإصابة بات يعدّ أياّمه الباقية، أمّا آمال الشّفاء فجمّها واهية...

     بعد أسبوع، اجتمعت العائلة مجدّداً للوداع، كان "أبو عليٍّ" يعيش و زينب حالة الضّياع,و ليُخبرها بخوالج فؤاده قال ":أعلم أنّ بلاد فارس ستكون لي مصرع، بيد أنّ لي في شفاعة الرّضا و زيارته مطمع، كما أعلم أنّ بالكم بالفراق مُروّع، لأجل راحتي يا أحبّـتي لا تدَعوا أعينكم تدمع ..." ختم مبتسماً .

و أحشاؤه عليهم تتقطّع، ثمّ رحل...رحل بعد أن نال كلّ واحدٍ منهم نصيبه من الوداع, و عزف الفراق على عظام صدورهم للحزن إيقاع,أخيرًا كان إلى "غريب طوس" الإقلاع...حيث جمال الدّنيا يصبح فناء، و ملقى الغريب جنة البقاء.

     و دارت دوامة الأياّم، لتبدأ الحرب مع اللّئام، فما كان لعيون رجال "زينبع" أن تنام، لذا شدّوا الرّحال، و قطعوا  الأميال، و زحفاً انطلقوا صوب الشّام، ليحاموا عن بضعة فاطمة و عقيلة الإمام، فاحتار "فخر" زينب بين بعلها و أخيها,كيف لا و كلاهما حماة المقام ؟! أما فكرها فاختار الانفصام: نصفه في إيران و الآخر في الشّام .

     و في إحدى اللّيالي لاح لها طيف منام، استيقظت لتسرح رواسب أحلامها في الظّلام، و تتأكّد أكان حُلماً أم مجرّد أوهام، فيما كان الأنام نيام أيقظت بسملتها أختها فاطمة الّتي بادرت بالسّؤال ":خيرٌ إن  شاء الله ؟! ما رؤياكِ يا أختاه ؟!"

-        رأيتها و الّذي اسمه الرحمان و السّلام، بضعة الرّسول أقبلت من فوق الرّكام، حدثتني بأجمل الكلام,قالت لي":إن عاد عبّاسك قبّلي كفيّ هذا الهُمام و زلّلي كلّ مصائبك بذكر الآل الكرام"، و إذ ما بكيتُ بين يديها، مسحتْ عبراتي براية قبّة المقام...ثم أيقظني صوت الآذان...

-        جعله الله خير الأحلام، فلنصلِّ و ندعو لأخي المقدام ...

 بعد تأدية عمود الإسلام، و كالعادة معاهدة الإمامعج، انطلقت "زينب" إلى الدّوام . و فيما كانت تتطلّع على أخبار حرب الشّام, استحضرت كربلاء آن نُصبت عليها الأعلام، يومها غصبوا "فدك" و اليوم يريدون المقام، اليوم يحرقون "سوريا" و يومها أحرقوا الخيام، فأين من أسلحتهم السيّوف، بل أين السّهام؟! وقد جئناهم في عشق الآل أيتام ، يومها خانتنا العشائر و السِّوام، و اليوم بحزبنا نبخرهم كما الغمام, فلا تعصى على الأُسد بعض الأغنام، سيرون بأمّ أعينهم عمق الهيام، اليوم تبيدهم بدايات ثورة الإمامعج ...

 ما إن وصلت  إلى "قسم العناية"، حتى باشرت بالإطمئنان على المرضى, تاركةً الحظّ الأوفى من اهتمامها للجرحى، و عندما لدغت عقارب السّاعة الخانة الثّالثة، وصلتها رسالةٌ قصيرة من فاطمة، تقول فيها":أسرعي بالعودة إلى الدّار,فقد عاد الزّوّار..." و مع إبصار أحرفها الجامدة، جمد الدّم في عروق القارئة، تتساءل عن الزّوار : زوّار زينب أم جريح الرّضا في إيران ؟! و عبثاً حاولت معاودة الإتّصال،  إذ انقطع الإرسال . كان دوامها قد شارف على الانتهاء، فبدّلت مريلتها البيضاء.و فيما كانت توقّع أوراق المغادرة، أُحضر جريحان، و من إنشغالها بالرّسالة – دون الالتفات إليهما - غادرت المكان ...

و كانت المفاجأة على أعتاب الدّار، استقبلتها "فاطمة" و دمع عينيها يهطل كالأمطار على وجنتين حمراوين كالمرجان .حضنتها "زينب" و رفات الوجل فيها تلتهب كنار ":أختاه بوحي بالمكتوم من الأسرار، أطلعيني الأخبار، ما حال الزّوار ؟"

-درب الصّبر يا زينب مرّار، فاذكري "يتيمة محمدٍ" علها تُزيح عنك الأوزار, غاب يا أختي من كان بالأمس الرّكن و الدّار، روحه عرجت إلى السّماء و هامته هامدةً تأتينا من المطار ...

لكلمات "فاطمة" أحسّت "زينب" بالدّوار، متأمّلةً لو تتغيّر نتيجة الحوار، ما لبثت أن ومضت في عينيها الأنوار، و وقعت مغميّاً عليها فوق أوراق الأشجار ...لحظات و استعادت وعيها في حضن أختها   لتسمع عبارات التّرجيع و الاستغفار، تمنّت آنها لو يُحلّل الانتحار, فعلى ألم الفراق تُفضل الاحتضار . ها هي تقف مجدّدًا أمام عسف الأقدار، ترجو رحمة الباري مسلّمةً لقضاء القدّار. راحت تتساءل كيف تنام اللّيل و تقوم النّهار ؟, قد رحل والدها و ثانيةً فاتها القطار,فإن سألتها ورود الدّار عن ساقيها بمَ تجيب الأزهار ؟ و كيف تُهدّئ روع يتيمةٍ نشب الحزن في قلبها أنيابه و الأظفار ؟ بل بمَ تجيب مقاومًا غادر ليمحو بصمة العار ؟ "أبو عليٍّ" و رغم طول الإنتظار, استطاع اللّحاق بركب شهداء الانتصار. و كان أوّل من تذكّرته يتيمة المختار ع ": بضعة الرّسول رغم المعاناة أبت الإنهيار، و أنا اليوم أحاول الفرار ؟! هيهات ...حتّى آخر رمقٍ فيّ سأُكمل المشوار ..."قالت هذا مستجمعةً ما بقيَ من قواها، مُحاولةً الصمود والاستمرار ...

 

 سألتها "فاطمة" و تنهّدات البكاء تُكسّر صوتها ":أختي، كيف نخبر "عبّاس"؟، و متى تُشيّع الجنازة و نُعلم النّاس ؟ "

فأجابتها":إن حرارة رحيله حشرجةٌ تحبس هيام فؤادي, فصبرًا عليّ يا أنيسة أحزاني، أخاف أن يغدر بأخي العدوان، إن اعترى قلبه الأسى و الحنان، و عندما تصل جثّة أبي من إيران، نشيّعها و الأقارب  

و الجيران".

     و مع إشراقة اليوم التالي أزاحت ملكة البهاء بأصابعها الدّافئة  بعضاً من ستائر السّماء الدّاكنة و ألقت بأشّعتها العسجديّة على غيومٍ متلبدّة فلوّنت أطرافها، أيلول عاد و ما من ارتحالٍ لصمته إلاّ عند الرّبيع, فالطّيور تركت له حيّزًا في السّماء ليستريح، و الأشجار أعرت أغصانها لتصافحه و الرّيح، وطيوره المهاجرة تؤكّد أنّ الرّحيل مكتوبٌ للجميع ... بالرّغم من أنّ اليوم عطلتها، فاجأ "زينب" اتّصالٌ من المشفى لمزاولة عملها، فأسرعت لتأدية واجبها, إذ اشتدّت المعركة و كَثُر جرحاها...

   -" آجرك الله على مجيئك يا "زينب", بالأمس أتانا جريحان كان وضعهما خَطِرًا، هلاّ اطمأنّيت عليهما؟" قالت لها زميلتها متابعةً عملها ... بينما كانت تنفّذ ما أُمليَ عليها، لفتها اسم "عبّاس" على باب أحدهما، هرعت إلى غرفته ليصدمها مقاومٌ مقطوع الكفين، مضمّد الرّأس، مُغمض العينين . عرفته...

 و كيف تجهل الحنونة أخاها ؟! إنّه هو حامي زينب، حبيب فاطمة . صرخت باسمه و هي صامتة، ووقفت دقائق أمامه واجمة ... ثم دنت منه و مقلتاها دامعتان، مقبّلةً جبينه قائلة ":بنفسي أنتِ مولاتي يا فاطمة، كيف أُنفّذ وصيّتكِ الآنفة؟ و لا كفوف أُقبّلها و لا أيدٍ ألثمها, ألا فانظري حال المقدام أمامي..."

        راحت "زينب" تنسج من الصّبر مناديل الدّمع، تشرب التّجلّد في كؤوس الأسى، و تعبّد بالحسرات دروب الرّحيل, باحثةً عن المرسى ... تُحمل الأياّم ما اعترى في نفسها,شاكرةً اللّه على المصاب الجليل,مُسلّمةً بأنها لم ترَ إلاّ الجميل.و كان اللّطف الإلهيّ عود"عبّاس" و إن كان جريح، و سلامة "حسن" بعد المحاماة عن أخت "الذّبيح".

     وأخذت "الرّوزنامة "تُقلّب صفحاتها، و تُغيّر تواريخ الأياّم و الأزمان، حتّى كان في بداية العام التّالي ما كان:إذ فُتحت الجبهة مجدّدًا مع العدوان,مع اللّعنة أبناء أبي سفيان، و ليُرَدّ عن الأهل جور السّفلة

و الطّغيان، هبّ لإبادتهم شبابنا الشّجعان . فكيف نقف على الحياد و الهلاك يهدّد لبنان ؟! أَنَهابُ موتاً

و السّلام كلّه في بياض الأكفان ؟!

 الوجهة جليّة و "القصير" هي العنوان ... و كان "حسن" في طليعة الشّبّان, الهمّ وحده ردّ العدوان، فلا جبهة نصرةٍ تبقى و لا داعش و لا الجيش الجبان، كلهم سيعدمون برفّة جفنٍ لأبطالنا الفرسان ... فيسيطر رجال مقاومتنا على الميدان بنداء":لبّيك يا صاحب العصر و الزّمان".

     وهناك وقفت زينب تهزّ بصبرها الأركان، داعيّةً أن يتقبّل الكريم منها القربان . قد سلّمت الأمانات

و تسلّمت الأشجان، خاطبت قبور أحبّتها في جنة الرّضوان، و عيناها مع الدّمع ستنمهلان، قالت ":أقف على قبرك يا أبي، و الذّكريات تمور في وجداني، هل تذكروني أم قد اعتراني دجى النّسيانِ ؟! أنا التي ثملت لياليّ من الأحزانِ، و توقّف بعد رحيلكم زماني، فأضعت في هذه الدّنيا مكاني، داووا فؤادًا مكسورًا برؤياكم ينجبر، فعبراتي على فراقكم كالسّيل تنحدر، و فيّ بركان شوقٍ كلّ دقيقةٍ ينفجر..."

   في تلك اللّحظات استرعى انتباهها قبر أخيها "علي"، تذكّرت بسماته حين يلاعبها، و نظراته حين يحاكيها":أخي، رحلت إلى الحرب ناسياً طريق الإياب, قتلك يهوديّ تموز يا خيرة الشّباب، و قد جئتك واقفةً أمام الأمواج العاتية لرياح الجفاء، فهل ستمخر سفينتك عباب هذا الفضاء؟ما مضى لقاءٌ بلا فراق، خوفي أن يمضي فراقنا بلا لقاء..."

        أما حسن فكان يودّع جدران "مسجد الإمام عليع " و الأبواب . بعد أن صلّى ركعتين في المحراب، توضأت وجنتاه بدموع شوقٍ لسيّد الشّهداء، فكلّ ركنٍ في المسجد فيه عطر الدّماء . بالأمس كان حول "عبّاس الموسوي"يتجمّع الأتراب، منصتين بقلوبهم، مرتشفين بأعينهم كلمات الخطاب، و اليوم تراهم أعينًا تحرس جبالًا، ترعى الهضاب . يدنيهم للقائد توقٌ، أملٌ باللقاء ... قد ولد بين جدران الكعبة "أبو تراب",و السّيّد بارك ولادة أشباله في بيت الله، فكانت رصاصةٌ قضت على باقي الأحزاب, مثبتةً أنّ "حزب اللّه" للأبد هو الغلّاب.

    ثوان ٍو مزّق صفحات تفكيره نداءٌ باسمه الجهاديّ":تراب...زوجك بانتظارك". ما إن علم حتّى قبّل الأرجاء ببريق عينيه، مُلقياً على الرّفاق تحيّة أهل الجنّة، و أسرع لرؤية "زينب" التّي  كانت واقفةً  في حديقة المسجد كالزّهرة بعبائتها السّوداء، زهرةٌ في أيّار تفتّحت آن لامستها أشعّة ذكاء ... دنا منها فسمعها تتمتم بفاتحة الكتاب، عيناها على المقبرة تحدّث بصمتٍ الأحباب . و عندما أبصرته ابتسمت مسلّمةً بعينيها قبل الكلام, في تلك العينين كان "حسن" يفهم ما يعجز عنه بقيّة الأنام، يراها تلمع كالنّجوم وسط الظّلام، كيف لا و هي نفسه تشاطره الحياة و حتّى المرام...

   سألها ناظراً إلى بطنها ":كيف حال طفلنا الصّغير ؟" أجابت مبتسمة، و كأن مناها الوحيد أن تسمع ما استطاعت صوته الجميل، و كان لها ما تمنّت ":أتذكرين عندما زففت إليّ النّبأ ؟ كنّا هنا في احتفال ولادة الرّسول قبل سبعة أشهر، و قد نذرت الطّفل للمقام "

فضحكت ضحكةً خافتة قائلةً":أجل، أوأنسى واجبًا ؟.

-ما رأيكِ بتسمية المولود "محمّد"؟

-إن شاء الله يا أبا محمد ...

   ابتسم مطبقاً على شفتيه يروم وداعها، وتعصيه الكلمات في حضورها> سألته عيناها ساحبةً أحرفًا أخفاها، فقال ":يُذكر أنّ أمّ ياسر قبل شهادتهما، قالت للسّيّد":أنا حوريّتك يا سيّد في الدّنيا و الآخرة "

-و أنا حوريّتك يا تراب ...في الدّنيا و الآخرة . أتسمح لي أن أزور الجنّة في غيابك؟

  مقبّلاً جبينها أجاب ":أخاف عليكِ أن تأتي وحدكِ,انتظري عودتي,وعدٌ لمقلتيك ما إن أصل حتّى نزورها سويًّا.."

      مضى إلى الشّهادة، و مضت معه الأيّام، فكان في القصير ما لا يحمله لبّ عاقل، سيطر الشّباب على المداخل، ولم يبق من السّلفة السّفلة إلاّ القليل ليُقاتل .بيد أنّ مرور حربٍ دون شهداء كلامٌ باطل...فكلما ارتفعت وتيرة الحرب زاد الجرحى، و ارتفع شهداءٌ أفاضل .و"زينب" بقيت تزاول العمل رغم أنّها حامل، تسأل عيناها عن "حسن" كلّما وصل مُقاتل . تبكيه في عتمة اللّيل و نهارًا تناضل، تتصبّر بالغريبة و فداءً لعينيها تُكابر.كلما زُفّ شهيدٌ بدت كالورد الذّابل...

      وقبل أن تُطهّر الأرض بالكامل، جاءهم جريحٌ، في عينيه آلاف الرّسائل، أخرج من جعبته ورقةً طهرّها دمه السّائل، وسلّمها لزينب قائلاً أنّها من "تراب" . شمّت الرّسالة و قد غسل الدّم الّذي عليها دمع عينيها، ففيها عطر الجهاد و نسيم أرضٍ حُمل من كربلاء .قرأت بعد عبارات الحمد و الثّناء، و الحبّ و الشّوق للقاء :

   يوم الخميس الّذي يصادف بعد غد, سأحاول الاتّصال بكِ السّاعة السّادسة مساءً.حبيبتي أشهد بأنّك أدّيت جهادك في حسن التّبعّل و أحسنت، فادعِ لي أن يقبل الله جهادي.

       حملت أسفاري و جئتك متّكئًاً      أقدّم لكِ ما عبّرت عنه جراحي

       فاقرأي منّي أكان صوابًا أم خطأً     لعلّك تكونين متّكئي و سلاحي

       استعين به عند كلّ ضائقةٍ       مستبدلاً أياّم هزيمتي بناحي

       و كلمة حقٍّ تُقال في نهاية     لا حرمني الله منكِ يا حياتيب    

     فبعين بصيرتك أستبصر          والصبر للقياكِ بات محرابي

               اعتني جيّدًا بنفسك، و بنفسي الّتي استودعتها فيكِ، محمّدنا...أحبّكِ تراب

      فجر الخميس استيقظ "كربلاء"صديق "حسن" على ترتيله لآيات القرآن، أنصت حتّى أنهى فسأله مبتسماً  ":أتصلّي قبل الآذان ؟"

-        ألا يحبّ الحبيب خلوة حبيبه؟!

-        أراك هائماً يا صديقي في هوى الخالق، أفلا تركت شيئاً للمخلوق؟

ابتسم تراب مجيباً لسؤال صديق الحرب الجنوبيّ ":بلى..تركت الكثير,أسكنت الخالق حرم قلبي، و أعطيته لزوجٍ خلقها من نفسي ..."

-فليجرك الله من هؤلاء الأغبياء، إن سمعونا اقتلعوا قلبك لملاقاة الله...

    و بضحكةٍ علويّةٍ ختما حديثهما، و باشرا بمراقبة المكان، فهدوء اللّيلة الماضية يضعهم أمام خيارين :إمّا فرار المسلّحين أو تحضيرٌ للمعركة الأخيرة...تمركز الشّباب، كلٌ في موقعه ينتظر الأمر بالضّغظ على الزّناد.و عند سماع النّداء بتلبية مستأصل أهل التّضليل و الإلحاد، باشروا بتصفية أهل العناد.

     و قبيل السّاعة الخامسة تذكّر حسن وعده لزينب، فاغتم . كان المتوقّع أن يتوقّف إطلاق النّار قبل ساعة. أحسَّ "كربلاء " بانزعاج صاحبه، فزحف نحوه سائلًا  عمّا أهمّه . فما كان من الأوّل إلّا أن أخبره...قال كربلاء":لا عليك يا أخي، الآن نستأذن القائد المحوريّ و نعود إلى المركز آن يهدأ إطلاق النّار. لم يبقَ إلا خمسة ..." 

-        لا بأس، لن أترككم الآن، سنعود سويًّا بعد نصف ساعة بإذن الله..

بعد نصف ساعة، ساد الهدوء و غُلّف الفضاء بغبار القذائف، و لم يبقَ للتّكفيريّين سوى أثر الدّماء و الأشلاء، فحمل الشّباب جرحانا و الشّهداء. و بالتّكبيرات غادر الشّباب ... و بينما كانوا يهمّون بالمغادرة أبصر حسن قنّاصًا كالحيّة ملتفٌّ وراء عامودٍ على سطح إحدى البنايات...

  أمّا "زينب" فاستجدّ عملها و اضطرّت أن تبقى حتّى السّاعة . أوضاع الجرحى خطيرة و لن يتسنّى لها المغادرة قبل نصف ساعة . و عندما أنهت خرجت بثياب العمل، و استقلّت أوّل سيّارةٍ رأتها ...ما إن ترجلّت منها حتّى أسرعت دون الالتفات، فصدمت جانبها إحدى السّيّارات ...

      في تلك الأثناء، أطلق القنّاص رصاصته الغادرة لتخرق جمجمة "حسن" الّذي حاول جاهدًا ردّ الطّلقات عن أصدقائه، فكان درعًا لأجسادهم الطّاهرة و خوذةً لرؤوسهم التّقيّة ...وأمضت حياته أمام عينيه، و كان ثغرها المبتسم آخر ما أبصرته مقلتاه، فصرخ ":لبّيكِ... يا زينب " بملء شفتيه, و سقط مرتفعًا شهيدًا بعد أن أغمض النّجيع عينيه...

       إبّان ارتقاء روحه إلى السّماء, لعلّها التفتت إلى الوراء قائلة:

سألت روحي بعد طول عناء    كم أحببت في الكون من حوراء

أجابت و الرّوح تتنهّد فرحًا    هل للقلب متّسع لأكثر من ولاء؟

فرشت لها بين أجنحته وردًا      تفوّحت منه كلّ العنبر و الدّماء

جفّت عروقي و طعم بلسمها  سائحٌ  فاح عطره فوق كلّ الأرجاء

زينبٌ لكِ في القلب مرتبةٌ          لم يعتلها سواكِ من النّساء

لو كان السّبق لغيركِ لكنتِ أنت خلاصة حبّي في الأرض والسّماء*

 وعلى السّرير في غرفة العمليّات، ابتسمت زينب و صرخ "محمّد" مستقبلًا آلام الحياة، و بقي أربعين يوماً تحت المراقبة حتّى تماثل للشّفاء، و ما لبثت ابتسامة اللّقاء إلا بضع ثوانٍ، قد أيقنت  زينب حينها أنه حان وقت الفراق، فاستودعت طفلها للدنيا تخلق له النّهار أماً و اللّيل أباً، تنهدت و امتثلت إلى الباري قائلة :"بحق ضلع الزّهراء لبيت لكِ الوفاء يا مولاتي يا زينب ".

 كانت هذه عبارة وداعها ولسان حالها يجيب بعلها:

هات يدك واحملني إليكَ   فبعد الشّهادة يطيب اللّقاء

وأنا الملوعة قد رأيت كم  مزّقتني رياح الجفاء

فراشة قلبك  قد حلّقت  مسرعةً إليكَ تلبي النّداء      

 

 

 

 

الرزنامة


نيسان 2024
الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت
31 1 ٢٢ 2 ٢٣ 3 ٢٤ 4 ٢٥ 5 ٢٦ 6 ٢٧
7 ٢٨ 8 ٢٩ 9 ٣٠ 10 ٠١ 11 ٠٢ 12 ٠٣ 13 ٠٤
14 ٠٥ 15 ٠٦ 16 ٠٧ 17 ٠٨ 18 ٠٩ 19 ١٠ 20 ١١
21 ١٢ 22 ١٣ 23 ١٤ 24 ١٥ 25 ١٦ 26 ١٧ 27 ١٨
28 ١٩ 29 ٢٠ 30 ٢١ 1 2 3 4
لا أحداث

مواقع صديقة

Image Caption

جمعية المبرات الخيرية

Image Caption

مؤسسة امل التربوية

Image Caption

مدارس الامداد الخيرية الاسلامية

Image Caption

المركز الاسلامي للتوجيه و التعليم العالي

Image Caption

وزارة التربية والتعليم العالي

Image Caption

جمعية التعليم الديني الاسلامي

Homeالارشيفأخبار مستوى ثاني - كفرفيلارفع الرايات الحسينية في مدرسة المهدي (ع) كفرفيلا
https://socialbarandgrill-il.com/ situs togel dentoto https://sabalansteel.com/ https://dentoto.cc/ https://dentoto.vip/ https://dentoto.live/ https://dentoto.link/ situs toto toto 4d dentoto omtogel http://jeniferseo.my.id/ https://seomex.org/ omtogel https://omtogel.site/